غزة تعاني من الجوع بينما العالم يتجاهل الأمر.

غزة تعاني من الجوع بينما العالم يتجاهل الأمر.

يواجه سكان قطاع غزة اليوم واحدة من أقسى وأشد صور الحصار والجوع في العصر الحديث، حيث أصبح الحصار المفروض من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي معاناة يومية يقاسيها أهل القطاع، الذين يعيشون في وضع إنساني مأساوي يسوده الألم والفقر وعدم الاستقرار، لم تترك إسرائيل أي فرصة للسكان للتنفس أو الحياة الطبيعية، فالمعابر البرية والبحرية والجوية كافة مغلقة بإحكام منذ أكثر من شهرين، مما يحرم أهل القطاع من أبسط حقوقهم الأساسية، ومنها إدخال المواد الغذائية الحيوية وعلى رأسها الدقيق.
يشكل الدقيق، الذي كان سابقًا أحد البنود الرئيسية والأساسية في الغذاء اليومي لسكان غزة، اليوم مادة نادرة وصعبة المنال، حتى إنه تطور إلى حلم مستحيل يبحث عنه الناس بلا جدوى.إن هذا الحصار لا يأتي في ظروف عادية، بل يصحبه صمت دولي مخيف، وانعدام أي موقف عربي حقيقي يدافع عن حقوق ومصير أهل غزة الذين يعانون في صمت وألم،  هذا الصمت يُترك فيه الناس في مواجهة وحشية طغت على إنسانيتهم، ووُضع مصيرهم بين يدي من لا يرحم، لا يُفرق بين طفل أو شيخ، أو امرأة فقدت زوجها وأصبحت أرملة، ولا يكترث للدموع التي تذرف أمامه بلا توقف، إنه حصار لا يراعي أي معايير للحقوق الإنسانية أو القيم الأخلاقية، ويبدو أنه أشبه بوحوش جائعة لا تشبع ولا تكتفي.لقد أدى هذا الحصار القاسي، إلى اختفاء الكثير من السلع والمواد الغذائية من الأسواق في قطاع غزة، فيما شهدت الأسعار ارتفاعات غير مسبوقة في جميع ما تبقى من مواد متوفرة، وعلى سبيل المثال، وصل سعر كيس الدقيق الذي يزن 25 كيلوغرامًا إلى ما يزيد عن 1600 شيكل، أي ما يعادل حوالي 500 دولار أمريكي، وهو مبلغ خيالي يفوق قدرة كافة الأسر على تحمله، هذا الارتفاع الفاحش في الأسعار يشكل عبئًا إضافيًا على الأهالي الذين يعيشون أصلًا في ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية، حيث البطالة متفشية ونسبة الفقر مرتفعة بشكل غير مسبوق.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بدأت رحلة العذاب والشقاء لدى السكان، خاصة لدى الأمهات الغزيات، حيث اجتهدن في إيجاد طرق بدائية لتصنيع الخبز، عبر طحن ما توفر لديهن من أرز وعدس ومعكرونة، في مشهد مؤلم يعكس عمق المأساة التي يعيشها القطاع، هذا المشهد يعبر عن مرارة الحاجة وقسوة الجوع التي تجتاح حياة آلاف الأسر، ويعبر عن اليأس الذي استبد بأهالي غزة في مواجهة كابوس المجاعة الذي يهددهم.لم تتوقف الأزمة على الغذاء فقط، بل امتدت لتشمل النقص الحاد والخطير في الإمدادات الطبية والأدوية، التي تنفد بشكل سريع، مع ازدياد الحاجة إليها بسبب تردي الظروف المعيشية واستمرار التصعيد العسكري والقصف على القطاع، مما يزيد من المعاناة الإنسانية بصورة مأساوية، من المؤسف أن ما يدخل قطاع غزة حاليًا لا يتعدى “القنابل”، بينما تُمنع كل مستلزمات الحياة الأساسية، حتى تلك التي تحفظ حياة الأطفال والمرضى.
هذا الواقع يعكس انهيارًا أخلاقيًا عميقًا، يعكس فشل المجتمع الدولي في حماية حقوق الإنسان والحفاظ على كرامته، هذا الانهيار لا يطال الضحايا فقط، بل سيدفع ثمنه كل الأطراف، إذ لا يمكن لأي أحد أن ينجو من عواقب هذه اللامبالاة التي تقرّبت من التواطؤ.لقد أصبح الحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، مع استمرار منع إدخال المواد الغذائية وغيرها من الحاجات الأساسية، بمثابة أزمة إنسانية كبرى تشكل تهديدًا مباشرًا لحياة الملايين من المدنيين، حيث توضح البيانات التي نشرتها وكالة (الأونروا) أن 92% من الأطفال بين ستة إلى ثلاثة وعشرين شهرًا، إضافة إلى النساء الحوامل والمرضعات، لا يستوفون احتياجاتهم من المغذيات، مما يفضي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض والوفيات.
كما تشير التقارير إلى إصابة نحو  65 ألف طفل بسوء تغذية حاد، وتم نقلهم إلى ما تبقى من المنشآت الصحية والمستشفيات التي لا تكاد تفي بقدرتها المحدودة أمام حجم الأزمة المتزايد بسبب الدمار المستمر الذي أصاب هذه المنشآت جراء الاعتداءات المتكررة. 
ولا تقتصر الكارثة على ذلك، فعدد ضحايا الأطفال الذين فقدوا حياتهم نتيجة الجوع قد وصل إلى 50 حالة وفاة مؤلمة، ما يعكس تداعيات الحصار الوخيمة التي تسلّطت على شريحة الأطفال الأبرياء.إذا نظرنا إلى هذه الأزمة من منظور تاريخي واستراتيجي، نكتشف أن حصار التجويع لم يكن أمرًا جديدًا، بل كان طوال القرن العشرين جزءًا أساسيًا من التفكير الاستراتيجي الغربي، حيث جسّد أداة مهمة للحفاظ على النظام الدولي القائم، فقد استخدم هذا التكتيك الوحشي بشكل فعال ومرعب في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ اعتبره المنتصرون والمهزومون على حد سواء سلاحًا حاسمًا للفوز بالحرب عبر تدمير إرادة العدو من خلال تجويعه وإفقاره.
فقد شهدت هذه الحروب حالات من الحصار القاسي الذي استهدف المجتمعات بأكملها، مما أدى إلى معاناة إنسانية هائلة وارتفاع غير مسبوق في أعداد الضحايا من المدنيين جراء المجاعة والمرض،  وعلى الرغم من هذه المآسي، ظلّ حصار التجويع محل قبول غير معلن ضمن استراتيجيات الحروب الكبرى، رغم الجدل الأخلاقي والقانوني الذي يحيط به.
من الناحية القانونية، وعلى الرغم من أن ميثاق جنيف والقوانين الدولية تحظر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، فإن هذا الحظر ظلّ مجرّد حبر على ورق، إذ لا توجد عقوبات محددة أو رادعة تُطبّق على الدول التي تلجأ إلى هذه الاستراتيجية، فالمحكمة الجنائية الدولية، على سبيل المثال، لم تصدر حتى الآن أحكامًا صارمة أو معاقبة واضحة للدول التي تستخدم حصار التجويع كتكتيك حرب، ما يعكس نوعًا من التهاون أو عدم القدرة على فرض القانون الدولي في ظل الأوضاع السياسية المعقدة.

وفي ظل هذا الواقع، يصبح السؤال المطروح هو: إلى متى سيظل سكان غزة حياتهم معلقة بين أمل يتبدد وواقع مؤلم يزداد سوأً؟ وكيف ستتغير موازين القوى التي تفرض هذا الحصار الظالم؟
من المؤكد أن الحلول الإنسانية العاجلة أصبحت ضرورة قصوى، فلا يمكن السماح باستمرار معاناة مثل هذه الشعوب التي كانت وما زالت قصة صمود في أقسى الظروف، ويتطلب ذلك تحركًا دوليًا جادًا يضغط على الاحتلال الإسرائيلي لرفع الحصار فورًا، وتنشيط كل الجهود لتوفير المواد الأساسية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة بشرية تستحق أن تحيا بكرامة. 
وفي الوقت ذاته، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع لخلق بيئة سياسية وأخلاقية تدعم هذه الخطوات وتمنع تكرار مثل هذه الكوارث الإنسانية التي لا علاقة لها بأي معقولية أو إنسانية.إن معاناة غزة اليوم ليست مجرد قضية محلية، بل هي اختبار حقيقي لضمير الإنسانية، وتحدٍ لمعنى العدالة والحرية، وفرصة للوقوف إلى جانب المظلومين في وجه بطش الاحتلال، فلا يمكن أن تستمر صرخات الجوع والعطش والصمت المطبق من القوى الكبرى، بينما تسكن غزة قلب العالم العربي والإنساني، تئن وتنتظر أن يأتي الفرج الذي طال انتظاره، وينقلب الواقع المرير إلى حياة كريمة وأمل مستمر.