مصر وإعادة تشكيل معايير المنافسة

لم يعد هناك مجال للحديث عن نظريات المؤامرة، فالمشهد بات أكثر وضوحًا، والعدو معروف مهما تعددت الوجوه أو تغيّرت الأساليب. ورغم المحاولات المستمرة لعزل مصر دوليًا أو ممارسة ضغوط تهدف إلى انتزاع تنازلات تمس مصالحها الوطنية أو استقلال قرارها السيادى، تظل مصر رقمًا صعبًا فى معادلة المنطقة، ولاعبًا محوريًا لا يمكن تجاوزه فى أى تسوية جادة تتعلق بالأمن الإقليمى أو الاستقرار الدولى. وفى ظل الإدراك العميق لطبيعة التحولات الجارية، فإن اللحظة الراهنة تفرض إعادة تقييم شاملة لنهج إدارة علاقات مصر مع القوى الكبرى والإقليمية، ليس من منطلق التراجع أو التنازل، بل من منطلق إعادة صياغة قواعد اللعبة بما يخدم المصالح العليا للدولة ويعزز مكانتها الفاعلة على الساحة الدولية. يجب أن تنتقل السياسة الخارجية من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة صناعة التأثير، عبر أدوات دبلوماسية حديثة تتماشى مع التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة. ورغم احترامنا لجهود الدول الأخرى فى بناء مستقبلها، فإن التاريخ وحده لم يعد كافيًا لضمان الاستمرارية والتأثير. المطلوب اليوم هو تجديد مستمر فى أساليب التفاوض، وإعادة هيكلة التحالفات، وتفعيل أدوات القوة الناعمة والذكية بكفاءة. فالعالم لم يعد يُدار بالتصريحات وحدها، بل بالفعل الفاعل والمؤثر، خاصة فى زمن أصبحت فيه التكنولوجيا أداة مركزية للتأثير، بل وأحيانًا للتلاعب وتوجيه الرأى العام. وفى ظل تعقيدات المرحلة الراهنة، تواجه مصر تحديات متراكبة تستوجب استجابة استراتيجية متقدمة لا تكتفى بردود الأفعال. فالوضع الإقليمى والدولى أصبح أكثر تشابكًا، الأمر الذى يفرض على الدولة المصرية اعتماد مقاربة تقوم على ثبات المبادئ، دون تقديم تنازلات، مع تفعيل مؤسسات الدولة المعنية بالعلاقات الخارجية، وتحديث آليات عملها، لضمان استمرارية الدور المصرى القيادى والفاعل. كما أن استباق الأحداث وامتلاك زمام المبادرة بات ضرورة ملحة فى ظل ما يشهده العالم من تحولات متسارعة. وفى هذا السياق، جاء البيان المصرى الأخير بشأن الجولة الخليجية التى يقوم بها الرئيس الأمريكى، وما رافقها من جهود مشتركة للإفراج عن رهينة أمريكى، ليؤكد مجددًا أن مصر لا تزال حاضرة بفاعلية فى قلب المشهد الإقليمى، وتؤدى دور الوسيط الموثوق بالتعاون مع شركاء إقليميين، على رأسهم دولة قطر، للمساهمة فى وقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية العاجلة إلى قطاع غزة. وتُعول مصر على الدور الأمريكى، ممثلًا فى الرئيس ترامب، للمساهمة فى تحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة، وتهيئة الأجواء لتنفيذ الخطة العربية للتعافى المبكر وإعادة إعمار غزة. وفى الوقت ذاته، تشدد مصر على أهمية دعم الوساطة الثلاثية (المصرية – القطرية – الأمريكية) باعتبارها المسار العملى والواقعى للتعامل مع الأزمة الراهنة، وترفض بشدة أى محاولات لتعطيل هذه الجهود الإنسانية والسياسية. وفى هذا الإطار، تجدد مصر دعوتها إلى تحرك جماعى داعم لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، بما يتماشى مع قرارات الشرعية الدولية. أما على صعيد الاستراتيجية الدولية الأشمل، فترى مصر أهمية إعادة التموضع الدبلوماسى عبر بناء تحالفات مرنة مع قوى دولية صاعدة مثل الصين والهند، إلى جانب الحفاظ على عمق العلاقات التقليدية، بما يعزز حضورها ويكسر أى محاولات لعزلها عن محيطها الدولى. كما تبرز ضرورة الاستثمار فى الإعلام الدولى والرقمى، لتقديم الرواية المصرية للعالم، والتصدى لمحاولات التزييف والتضليل، مع التركيز على توسيع نفوذ القوة الناعمة من خلال الدبلوماسية الثقافية والتعليمية، والمشاركة الفعالة فى مبادرات التنمية الإقليمية ذات الأثر المشترك. وفى موازاة ذلك، يتطلب الأمر تحصين القرار الوطنى من الداخل، عبر تعزيز الجبهة الداخلية سياسيًا واقتصاديًا، وهو ما يشكل درعًا أمام أى ضغوط خارجية تهدف إلى التأثير على استقلال القرار المصرى. وفى الختام، فإن تجديد الخطاب السياسى، لا سيما على الصعيد الدولى، أصبح أمرًا ضروريًا يتماشى مع مستجدات الواقع، ويؤسس لمرحلة جديدة من الحضور المصرى الفاعل، القادر على المبادرة وصياغة المعادلات، لا الاكتفاء بالتفاعل معها.