“حلف بغداد”.. هل سيظهر مجددًا بشكل “قانوني”؟

في لحظة سياسية فارقة، تتكشف أمامنا لوحة إقليمية معقدة تثير أسئلة وجودية تتعلق بمستقبل سوريا والمنطقة بأسرها. في هذا السياق، يبرز اسم أحمد الشرع – الذي يُمثّل تيارًا أيديولوجيًا محافظًا معروفًا بتشدده في القضايا الدينية والاجتماعية – ليطرح تساؤلات حاسمة: هل هو مستعد فعلًا للموافقة على التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ وهل كان على علم مسبق بالشروط التي رافقت إعلان تخفيف العقوبات الغربية تدريجيًا عن النظام السوري؟ من المثير للتساؤل أن نظامًا طالما تشدّد في قضايا الأخلاق العامة، إلى حدّ تحريمه المصافحة بين الجنسين ورفضه كشف المرأة لوجهها، يجد نفسه اليوم في قلب تسويات كبرى تفرض عليه تجاوز ثوابت لطالما كانت جزءًا من شرعيته الداخلية. فهل هذا الانفتاح المفاجئ مجرد مناورة سياسية تكتيكية؟ أم أنه بداية لتحول استراتيجي في بنية النظام، تُفرض شروطه من الخارج مقابل ضمان البقاء في الداخل؟ في هذا السياق، طُرحت معادلة تبدو خطيرة: أن استقرار سوريا – أمنيًا واقتصاديًا – بات مشروطًا بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وهي مقايضة لطالما رُفضت من معظم التيارات السياسية السورية، لكنها تعود اليوم إلى الواجهة في ظل سياق إقليمي متغيّر، يتسم بتعاظم تحالفات مثل “السلام الإبراهيمي” التي تعيد رسم خريطة العلاقات في الشرق الأوسط. لكن، هل يمكن فعلًا تحقيق استقرار داخلي حقيقي عبر تحالف مع عدو تاريخي طالما ساهم في تفتيت المشرق العربي؟ وهل يثق السوريون – وخاصة السنّة الذين عانوا لعقود من التهميش والاضطهاد – بأن هذا التطبيع لن يتم على حسابهم من جديد؟ الصراع مع إسرائيل لم يكن يومًا خلاف حدود، بل كان صراعًا على الهوية والسيادة والحقوق. أكثر من خمسين عامًا من المواجهة، من احتلال الجولان إلى دعم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، لا يمكن اختزالها في اتفاق سياسي تُفرض بنوده من واشنطن أو تل أبيب. فماذا يعني هذا التحول لجيل تربى على خطاب “الممانعة” والمقاومة؟ الشرع اليوم في مأزق واضح: إما أن يخضع للضغوط الدولية ويدخل في مسار تطبيع قد يفقده شرعيته بين مؤيديه، أو أن يرفض، فيُعرض نظامه لعزلة إضافية وربما عقوبات أكثر قسوة. وفي الحالتين، هو مضطر لتقديم تفسير علني: إما على أساس كونه قرارًا سياسيًا ظرفيًا، أو إعلانًا لتحول أيديولوجي جذري في مواقف النظام. ما يُرسم في كواليس السياسة الإقليمية قد لا يبتعد كثيرًا عن فكرة إعادة إحياء “حلف بغداد”، ولكن هذه المرة بغطاء جديد من المصالح الأمنية المشتركة والتطبيع مع إسرائيل. فـ”حلف بغداد”، الذي تأسس عام 1955، ضمّ كلًا من العراق وتركيا وباكستان وإيران إلى جانب بريطانيا، وكان يُعد امتدادًا للنفوذ الغربي – ولا سيما الأميركي والبريطاني – في الشرق الأوسط خلال فترة الحرب الباردة، بهدف تطويق التمدد السوفييتي. وقد قوبل الحلف برفض شعبي عربي واسع، لا سيما بعد أن اعتُبر أداة لتكريس الهيمنة الغربية عبر تحالفات محلية تخدم المصالح الأجنبية. ومع قيام ثورة 1958 في العراق، انسحب العراق من الحلف، مما أدى إلى انهياره وسقوط شرعيته السياسية. كما كان يُنظر إلى الحلف آنذاك باعتباره محاولة لهدم القومية العربية، والوقوف في وجه صعود الفكر الناصري الذي كان يمثل تهديدًا لمصالح القوى الغربية في المنطقة اليوم، تعود الفكرة في ثوب جديد: تحالفات إقليمية مدعومة غربيًا، تقوم على أسس أمنية/عسكرية، وتدفع نحو إدماج إسرائيل في المنظومة الإقليمية. والسؤال: هل ستكون سوريا – رغم كل خطابها السابق – جزءًا من هذه الهندسة السياسية الجديدة؟ المشهد القادم معقد، تتداخل فيه الجغرافيا السياسية مع الدين، وتتصارع فيه المصالح الآنية مع ثقل التاريخ. سواء وافق أحمد الشرع على التطبيع أم رفضه، فإن سوريا تقف اليوم على عتبة لحظة مفصلية ستعيد تشكيل دورها الإقليمي، وموقعها في وعي شعبها. والمفارقة أن هذا التحول، بكل ما يحمله من خطورة، قد لا يكون خيارًا سوريًا خالصًا، بل يُفرض ضمن ترتيبات دولية تتجاوز الإرادة الشعبية. عند النظر في ملامح هذه التحالفات الجديدة، يصعب إغفال التشابه البنيوي مع تجربة “حلف بغداد”. فكما سعى ذلك الحلف إلى احتواء النفوذ السوفييتي بغطاء أمني إقليمي، فإن التحالفات المعاصرة – سواء تحت اسم “السلام الإبراهيمي” أو “أحلاف الردع” – تهدف إلى تطويق النفوذ الإيراني ودمج إسرائيل في نظام أمني/اقتصادي جديد ترعاه واشنطن وتباركه عواصم إقليمية. الفرق الجوهري أن حلف بغداد كان موجهًا ضد قوة خارجية، أما التحالفات الحالية فتسعى لإعادة ترتيب الداخل العربي نفسه، عبر تفكيك المحاور القديمة (ممانعة vs تطبيع)، وإعادة رسم خرائط السيطرة والنفوذ وفق منطق المصالح لا المبادئ. ولعل أوجه الشبه الأكثر إثارة للقلق أن تلك التفاهمات – كما في الخمسينيات – تُمرّر بمعزل شبه كامل عن الشعوب. وإذا كان حلف بغداد قد سقط تحت ضغط الشارع العربي، فإن مصير التحالفات الجديدة قد لا يكون مختلفًا إذا تصاعدت التناقضات الداخلية بين الأنظمة وشعوبها