الهند وباكستان: نتيجة ١-٢

فى خضم تصاعد الأحداث فى منطقة الشرق الأوسط، واستمرارية الصراع الروسى الأوكرانى، استيقظ العالم الأسبوع الماضى على بوادر نشوب نزاع جديد، هو الأخطر هذه المرة، لأنه صراع بين قوتين نوويتين: الهند وباكستان؛ حيث اندلع النزاع بين البلدين نتيجة بعض الأحداث فى منطقة كشمير المتنازع عليها. ولا تنبع خطورة هذا النزاع من كونه صراعًا بين قوى نووية فحسب، ولكن للصبغة الأيديولوجية «الدينية» التى تمت صياغتها لطبيعة هذا النزاع على مر العقود السابقة.ربما لا يعلم البعض أنه حتى عام ١٩٤٧ لم يكن هناك شىء يُسمى باكستان، ولا بنجلاديش؛ حيث المسمى التاريخى عبر مئات السنين هو «الهند» أو «شبه الجزيرة الهندية»، التى كانت بحق أشبه بقارة. تخيل عزيزى القارئ أنه حتى هذا التاريخ، ١٩٤٧، كانت هناك «الهند» التى تم تقسيمها فى هذا العام على أساس دينى إلى الهند و«باكستان». ومن يتأمل هذا الاسم الجديد، آنذاك، يعرف معناه «باكستان» أى «الأرض الطاهرة»، أى أرض المسلمين، فى مقابل مصطلح «الهند» الذى بالتالى يصبح فى المقابل «أرض الكفار»، من هندوس وسيخ وغيرهما، وفى الحقيقة تجاهل البعض استمرار بقاء عشرات الملايين من المسلمين فى الهند، منذ التقسيم وحتى الآن.وينسى البعض أنه سرعان ما سقط الزعم الأيديولوجى «الدينى» وراء قيام دولة «باكستان» فى عام ١٩٧١؛ إذ قامت دولة «باكستان» على أساس دينى، وضمت باكستان الغربية «باكستان الحالية» وباكستان الشرقية أى «بنجلاديش الحالية». وكانت المسافة بين الإقليمين بعيدة جدًا، كما أن المسافة بينهما تشغلها دولة الهند. وفى عام ١٩٧١ تراجع إلى الخلف العامل الدينى، فكلا الإقليمين، باكستان الغربية والشرقية، تعيش فيهما أغلبية مسلمة كاسحة. لكن العامل الدينى تراجع بشدة أمام العامل القومى؛ إذ أعلنت الأغلبية البنغالية فى باكستان الشرقية عن قيام حرب الاستقلال إزاء تسلط باكستان الغربية ذات الأغلبية من «البنجاب». وانتهى الأمر إلى نجاح البنغال فى الاستقلال فى عام ١٩٧١، وإقامة دولة جديدة على أساس قومى هى دولة بنجلاديش التى نعرفها الآن.هكذا انقسمت الهند التاريخية «الموحدة» حتى عام ١٩٤٧ إلى ثلاث دول: الهند وباكستان وبنجلاديش! وهكذا سقط ملايين الضحايا، ومنذ عام ١٩٤٧ وحتى الآن، هناك ضحايا لمشاريع تقسيم الدول، سواء على أساس دينى أو على أساس قومى.ويشير معظم المؤرخين المهتمين بتاريخ شبه الجزيرة الهندية، الهند التاريخية، بأصابع الاتهام فى هذا الشأن إلى بريطانيا وسياستها الاستعمارية، طيلة فترة حكمها للهند، هذا البلد صاحب الحضارات العريقة، والتنوع العرقى واللغوى والدينى المثير؛ إذ على عكس الخبرة التاريخية الهندية، اعتمد الاستعمار البريطانى فى الهند سياسة خطيرة، هى سياسة «فرِّق تَسُد». ويرصد لنا المؤرخ الإنجليزى مارك كورتيس نتيجة هذه السياسة، وما أدت إليه فى عام ١٩٤٧ على النحو التالى: «فى ١٩٤٧، انطوى تقسيم الهند (المستعمرة البريطانية) إلى دولتين جديدتين هما الهند ودولة باكستان المسلمة، على عمليات ترحيل حاشدة للسكان وحمام من الدماء. إذ فقد ما يصل إلى مليون شخص أرواحهم فى العنف الطائفى الذى صحب التقسيم. وقد اتهم القوميون الهنود، وكثيرون غيرهم، بريطانيا باستمرار بأنها شجعت عمدًا التقسيم وإنشاء باكستان لتأمين مصالحها الاستراتيجية».فى المقال المقبل سنستعرض كيف شجعت بريطانيا الاتجاهات الدينية المتطرفة لمواجهة التيار القومى الهندى، الذى كان يسعى إلى بقاء الهند التاريخية الموحدة التى تضم جميع الهنود بصرف النظر عن الدين أو العرق أو اللغة.