الأوليغارشية الترامبية: النظام العالمي في مواجهة العواصف

لم تشهد العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة عواصف بهذا العنف كما نراها اليوم بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.هذه العودة ليست مجرد تغيير في القيادة، بل هي انقلاب في قواعد اللعبة الدولية، حيث تُمسك الأوليجاركية الجديدة بخيوط السلطة، وتعيد تشكيل المشهد العالمي وفق مصالح ضيقة، لا تعترف بقيم الديمقراطية أو المواثيق الدولية، بل تسعى إلى الهيمنة المطلقة.
كلمة “أوليجاركية” تعود جذورها إلى الكلمة اليونانية “أوليجاركيا”، وتعني حكم الأقلية، حيث تحتكر فئة قليلة الثروة والنفوذ. وقد حذر كبار الفلاسفة من منظري دولة المدينة مثل أفلاطون وأرسطو من هذا النمط في الحكم، لأنه ينتهي غالبا إلى الطغيان.في الولايات المتحدة، تحوّلت الأوليجاركية إلى قوة مهيمنة، تجمع بين رأس المال العقاري وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتتخذ من الشعبوية اليمينية غطاءً لمشروعها التوسعي. فترامب، بخطابه العنصري وسياساته الانعزالية، لم يعد مجرد رئيس، بل أصبح تجسيدًا لتحالف جديد بين النخبة المالية والشركات التكنولوجية العملاقة، التي ترفض أي قيود على نفوذها، داخليا أو خارجيا.
الأخطر في الموضوع أن الأوليجاركية الأمريكية لم تعد محصورة داخل حدود الولايات المتحدة، بل أصبحت عابرة للقارات، تتحكم في مصائر الشعوب من وراء ستار العولمة. بعد الحرب العالمية الثانية، تشكل عالمٌ ثنائي القطبية، حكمته قواعد غير مكتوبة بين العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ثم ساد نظام أحادي القطبية بعد سقوط جدار برلين، لكنه بدأ يترنح مع صعود الصين، وعودة روسيا، وتصدع الهيمنة الأمريكية بعد فشل مغامراتها العسكرية في العراق وأفغانستان. اليوم، نحن أمام نظام يحتضر، لكن البديل لم يولد بعد. فالصين تقفز إلى مصاف القوى العظمى اقتصاديًا وعسكريًا، وروسيا تعيد تشكيل نفوذها الجيوسياسي، بينما تحاول الولايات المتحدة، رغم تراجعها، الاحتفاظ بامتيازاتها عبر القوة العسكرية والضغوط الاقتصادية، ليصبح السؤال الأكبر: هل يمكن لواشنطن أن تحافظ على هيمنتها في عالم لم يعد أحادي القطبية، ولا حتى ثنائيا، بل يتجه لأن يكون متعدد الأقطاب؟ رفع ترامب شعار “أمريكا أولًا”، لكنه في الحقيقة يعني “الأوليجاركية أولا”، حيث تقوم سياسته على تفكيك الدولة العميقة، وإخضاع السياسة الخارجية لمصالح الشركات الكبرى، وفرض عقوبات جائرة حتى على الحلفاء. فهو يهدد بضمّ جرينلاند، ويرغب في السيطرة على قناة بنما، ويطالب أوكرانيا بتسديد ديونها من مواردها الطبيعية! هذه السياسات ليست مجرد صلف سياسي، بل هي محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ العالمي. فترامب مستعد للتخلي عن حلف الناتو، والتساهل مع التمدد الروسي في أوكرانيا، والتفاوض مع الصين حول تايوان، كل ذلك في مقابل صفقات تخدم مصالح الأوليجاركية الحاكمة. هو بذلك يقوض النظام الليبرالي الذي قامت عليه العلاقات الدولية منذ عقود، لصالح نظام جديد قائم على قواعد البزنس. الشرق الأوسط.. ساحة الصراع الأكبرلا تنفصل سياسات ترامب الخارجية عن المشروع الصهيوني التوسعي. فالفاشية الإسرائيلية تجد في الأوليجاركية الأمريكية حليفا مثاليا لتنفيذ مخططها: تفكيك الدول العربية، وتحويل المنطقة إلى كانتونات متناحرة، وفرض التطبيع كشرط للبقاء. فغزة تُحاصر، ولبنان يُقصف، وسوريا تُقسم، بينما تُفرض الاتفاقيات على دول الخليج لدفع “ثمن الحماية”.إذا ما اكتمل هذا السيناريو، فإن المنطقة ستتحول إلى برميل بارود، انفجاره محتمل في أي لحظة.
الأوليجاركية الترامبية تعتقد أن العالم سيقبل بشروطها، لكن التاريخ يخبرنا أن كل هيمنة تنتهي بسقوطها. فالصين وروسيا تقفان كقوتين مضادتين، وحتى الحلفاء الأوروبيون بدأوا يتذمرون من سياسات ترامب الأنانية/الانعزالية. في خلفية هذا المشهد يبقى العرب غارقون في صراعاتهم البينية، غير مدركين أن طريق ترامب يمر فوق أوطانهم. لو أدركوا ذلك، لبحثوا عن تحالفات جديدة مع القوى الصاعدة، ولوقفوا عند حدود مصالحهم بدلا من الانجرار وراء أوهام المحاور والتكتلات. هل يمكن للعالم أن يقاوم عاصفة الأوليجاركية الجديدة قبل أن تقوض كل ما تبقى من النظام الدولي؟ الإجابة ليست في يد النخب الحاكمة وحدها، بل في إرادة الشعوب وقواها الحية التي ترفض أن تكون وقودا لمشاريع الهيمنة، وعلى مدى قدرتها على التصدي لمخططات الإمبريالية الجديدة.