وداعًا لعبارة “الله أعلم”

وداعًا لعبارة “الله أعلم”

  تُعدّ الفتوى، التي توصف عادة بالشرعية، واحدة من أبرز أدوات التوجيه الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي، وتشكّل حلقة وصل بين النصوص الدينية الثابتة والواقع المتغيّر. ومع تطوّر الحياة وتشعّب قضايا الناس، أصبح للفتوى دور متزايد في رسم المواقف، بل أحيانًا في التأثير على التشريعات والسياسات. لكن هذا الدور المزدوج والمركّب طرح سؤالًا مهمًا على المستويين العلمي والمجتمعي: هل الفتوى الشرعية تمثّل رأيًا اجتهاديًا قابلًا للأخذ والرد، أم تُعدّ حكمًا شرعيًا ملزمًا لا يجوز مخالفته؟
تعريف الفتوى ومكانتها
الفتوى في اللغة من “أفتى”، أي أجاب عن مسألةٍ في فقه الدين، وهي اصطلاحًا: “إخبار المجتهد بما يعتقد أنه حكم الله في واقعة معيّنة لمستفتي”، أي أنها إجابة فقهية تصدر عن عالم في الدين مؤهّل يبيّن الحكم الفقهي في مسألة مستجدة أو غامضة على العامّة. ويشترط في المفتي أن يكون عالمًا بالقرآن، والسنّة، وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة، ومجتهدًا في تنزيل الأحكام على الواقع.
إلا أنّ هناك من يغالي في الفتوى، فيراها تمثل “حكم الله” في الواقعة، كما هو الحال في بعض تيارات الإسلام السياسي، التي تعتبر الفتوى أشبه بمرسوم شرعي يُلزم الناس جميعًا، بل قد يتم توظيفها أداة للصراع السياسي أو الاجتماعي، كما حدث في عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي.
هل الفتوى هي “إخبار بحكم الله”؟ بالقطع لا، بل بما يُظنّ أنه كذلك. جاء في صحيح مسلم: “عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:……… وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ، أَمْ لَا ؟”.
فبمجرد أن يتصدى المفتي ليفسر كلام الله، يتحول قوله الى عمل بشري، أي الى فتوى صحيحة قابلة للخطأ، أو فتوى خاطئة تحتمل الصحة. 
تضارب الفتاوى… برهان لا إرباك
إذا كانت الفتوى تمثل “حكم الله” عند جماعات الإسلام السياسي، فكيف تتعدد وتتناقض أحيانًا؟ علماء الشريعة يجيبون بأن الفتوى اجتهاد بشري في تفسير النصوص وتنزيلها على الواقع، أي أنها تعلن ما يُظنّ أنه حكم الله، وهي بذلك ظنية، تحتمل الصواب والخطأ، كما أقر بذلك كبار العلماء مثل الشاطبي والغزالي وابن تيمية.
إن اختلاف الفتاوى ليس دليلًا على اضطراب الشريعة، بل دليل على مرونتها، وتفاعلها وقدرتها على التكيّف مع ظروف الناس وتغيّر الأحوال، وليس دليلًا على التناقض أو التسيّب، بشرط أن تكون الفتوى قائمة على العلم والاجتهاد والانضباط.
الفتوى بين الرأي والحكم
يرى غالبية علماء الأصول والفقهاء أن الفتوى رأي اجتهادي، وليس حكمًا شرعيًا مقدسًا. فهي تعبير عن اجتهاد بشري في فهم النصوص وتطبيقها على حالة واقعية معينة، وبالتالي فهي ظنية في أغلب الأحوال، وليست قطعية كما هو حال النصوص المحكمة أو الأوامر الثابتة بالكتاب والسنّة. وقد عبّر الإمام الشاطبي عن ذلك بقوله: “الفتوى ليست خطابًا ملزمًا، بل هي إرشاد إلى ما يُظنّ أنه حكم الله في الواقعة”. 
من أبرز ما يدل على أن الفتوى “رأي” لا “حكم قاطع”، هو تعدّدها واختلافها بين العلماء، بل حتى بين العلماء داخل المذهب الواحد. وقد قال الإمام مالك: “كلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد الا صاحب هذا المقام”.
لذلك تختلف الفتوى عن القضاء، فبينما يصدر القاضي حكمًا ملزمًا في الخصومات ويُنفَّذ بقوة الدولة، تصدر الفتوى باعتبارها رأيًا فقهيًا يُسترشد به، ولا تملك بطبيعتها صفة الإلزام إلا إذا تبنتها السلطة أو تحوّلت إلى تشريع مدني.
الإلزام الأخلاقي والفقهي
رغم أن الفتوى ليست ملزمة من الناحية القانونية، إلا أن لها سلطة معنوية وأخلاقية كبيرة في حياة المسلمين، خصوصًا إذا صدرت عن جهة دينية مرموقة أو عن فقيه يحظى باحترام واسع. ومن هنا، فإن كثيرًا من المسلمين يلتزمون بالفتاوى الصادرة من مرجعياتهم الدينية، حتى لو علموا أنها اجتهادية، لأنهم يرون فيها مرشدًا أمينًا لدينهم.
لكن الإشكال يبدأ حين تتحول هذه السلطة الأخلاقية إلى قوة إكراه ديني أو اجتماعي، فيتم تقديم الفتوى باعتبارها “الحكم الشرعي الإلهي النهائي”، دون الاعتراف بأنها نتيجة اجتهاد بشري تحتمل الخطأ والصواب.
يا للكارثة! اعتاد الفقهاء أن يختموا فتاواهم بتواضع بقولهم “والله أعلم”، واعتدنا على سماعها، سامحة بالحرية في التبصر الشخصي. سيقضي قانون تنظيم الفتوى على هذه العبارة الحميدة، فارضا الفتوى الوحيدة، التي تكتسب بذلك القدسية، لتفردها على الساحة بعد اقصاء “هيئة كبار العلماء” أية فتوى أخرى مخالفة، سواء صدرت عن عالم مرموق منفردا أم صدرت حتى عن جهة خولها هذا القانون عينه هذه الصلاحية.
نجد اليوم للأسف من يفتي، مبينا رأيا واحدا، ساترا بقية الآراء، بغية أن يتبع السائل ما يرى المفتي أنه الصواب. والمفتي بطبيعة الحال لا يرى رأيه خطأ وإلا ما قاله، وينسى أحيانا انه ليس الها لا يخطئ، وأن من الوارد أن يصدر هو نفسه يوما ما فتوى أخرى برأي مخالف تماما لما قاله. فالفتوى بطبيعتها توجيهية ترشد الى طريق ما، مما يسمح بمناقشتها والرد عليها، وليس لصاحب رأي أن يتهم الآخر بالضلال طالما استند كل منهما الى دليل شرعي بل لأحدهما أن يفند فقط الدليل الذي استند اليه الآخر. والبعض لا يقبل نقاشا ولا جدالا في فتواه بل يفترض السمع والطاعة العمياء.تقنين الإفتاء… ضرورة أم احتكار؟
في ظل هذا الجدل، اتجهت بعض الحكومات إلى سنّ قوانين تنظم عملية الإفتاء، وتمنع غير المختصين من إصدار فتاوى علنية. وبينما يرى البعض أن ذلك ضروري لحماية المجتمع من الفتاوى المتطرفة، يحذّر آخرون من أن تقنين الإفتاء قد يؤدي إلى احتكاره من قبل مؤسسة دينية واحدة، بما يضيق مساحة الاجتهاد ويُقصي الأصوات المعتدلة. فضلا عن حرمان سائر الحاصلين على شهادات الدكتوراه المعتمدة من جامعة الأزهر وغيرها في تخصص الفقه والشريعة الإسلامية من أن يكون لهم حق الفتيا لمجرد عدم حظوتهم في الاختيار مما يمنع مبدأ تكافؤ الفرص ويمنع حق المواطن من حرية التعبير المكفولين في المادة 9 و65 من الدستور.
من هنا، تبرز أهمية تقنين الإفتاء وتنظيمه لكل صاحب مؤهل دراسي معتمد دون احتكاره أو تحويله إلى وسيلة للهيمنة، مع التأكيد أن الفتوى تبقى رأيًا اجتهاديًا وليست حكمًا إلزاميًا يُعاقب الناس على مخالفته.
ولا يكمن الخطر في تنظيم الفتوى، بل في محاولة فرضها كقانون، وتجريم الاجتهاد المختلف. فحين تصبح الفتوى مرادفًا للحكم القضائي، تُفتح أبواب الاستبداد الديني.
خاتمة
الفتوى الشرعية في أصلها (وياحبذا لوقلنا الفتوى المتوافقة مع الشرع لأن الشرع يحوى هذه الفتوى وغيرها من المختلف معها، وليست احدى الفتاوى هي الشرع)، فالفتوى رأي اجتهادي ناتج عن فهم بشري للنصوص، وهي ليست حكمًا نهائيًا مقدسًا، بل قابلة للنقاش والمراجعة والخلاف. وإذا كانت تحتل موقعًا مرموقًا في حياة المسلمين، فإن هذا لا يمنحها صفة الإلزام المطلق، إلا إذا تحولت إلى قانون عبر المؤسسات التشريعية للدولة. ولا بد أن يُصان الإفتاء من التسييس والتطرف، ويُعاد التأكيد على أن الاختلاف فيها رحمة وتيسير لا فتنة وتعسير.