كل هذا “الاعتداء”

في مطلع الثمانينيات أتحفنا الراحل وحيد حامد بمسلسل إذاعي تحول فيما بعد إلى فيلم سينمائي حمل اسم ” كل هذا الحب “، فكان العمل تعبيرا عن واقع انتشر في حينه هو الرومانسية المفرطة وارتفاع صوت العاطفة التي تتحدى الجميع انتصارا للحب. ومنذ نحو عقد من الزمان أصدر الروائي عزالدين شكري رواية حملت اسم ” كل هذا الهُراء “، فيما يمكن أن نعتبره عنوانا يعبر عن صخب مجتمعي ساد وزاد في تلك الآونة.
و اليوم أجدني عاجز عن التعبير عما ينتشر على صفحات التواصل من حكايات وقصص عنف مجتمعي تكاد حين تتابعه أن تصف من يمارسوه بأنهم تجردوا من آدميتهم وصاروا وحوشا ضارية لا قلب لهم ولا عاطفة لديهم. ورغم أنني لم أكن يوما ممن يحرصون على متابعة اخبار الحوادث، أو تتبع قصص عتاة الإجرام، إلا أن تصفحي لصفحات السوشيال جعلني أصادف عشرات الجرائم الوحشية التي تكاد تصدمك مساحة العنف فيها، وتبلد مشاعر مرتكبيها، وجرأة كثيرين منهم في الإتيان بأفعال قد يفكر الشيطان نفسه قبل الإقدام عليها.
صحيح أننا لم نكن من قبل مجتمعا من الملائكة، وبالمناسبة لن نكون. ولكننا كنا بشرا، خلافاتنا تقف عند حد الخصام أو الغضب. وحين يتصاعد الخلاف تجد ردود افعالنا قد تجسدت في صور السُباب،الشتائم، التهديد والوعيد. لكنها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من تبجح وجرأة وعدم الاعتداد بكلمة الكبار أو عدم الالتفات إلى ما تحكم به المجالس العرفية، لأننا لم نعد نبلغ هذه المرحلة من العقلانية أصلا، كما أن الكبار الذين كانوا يتصدون للحكم في تلك المجالس صاروا ينأون بأنفسهم عن التدخل إذا ما وصل الأمر لمستوى معين من التدني أو الصَغار .
وانتشرت للأسف مشاحنات الأقارب، وخلافات الاصهار، واكل ميراث اليتامى، واستباحة المال الحرام، والاستقواء على الغرباء عن المنطقة، وانتشار السلاح غير المرخص في أيادي البلاطجة، وعدم احترام المنشآت العامة، كلها آفات تتطلب الردع العاجل قبل فوات الأوان.
صرنا نتابع حكايات لجرائم منظمة أتوقع أن يرصدها أحد الروائيين قريبا في رواية لن يجد لها اسما أكثر تعبيرا من جملة ” كل هذا العنف “، ورغم قسوة المفردة إلا انها أقل ما يمكن أن يوصف به المجتمع حاليا للأسف الشديد. وتعالى أعدد لك نماذج مما شاهدته وأحتفظ ببعض الروابط لفيديوهات صادمة توثقه. فهذا مثلا مشهد لمجموعة من الشباب التفوا حول توك توك – في منطقة أم بيومي بشبرا – وهم يتهافتون على شراء المخدرات هكذا جهارا نهارا، لا يخشون تصوير جرمهم صوت وصورة، ولا يعبأون بمن يراهم من المارة. أو أولئك الشباب والفتيات الذين يتعاطون الشابو !! ثم تراهم يترنحون في الشوارع ويقفون في نهر الطريق غير مكترثين بسيارات أو بشر، أو تراهم يفترشون الأرض أشبه بالحيوانات الهائمة على وجهها تحت تأثير مخدر فتاك.
تابعت كما تابع غيري بعض المواطنين الذين اقتحموا مسجدا في منطقة وروّعوا المصلين بحجة تتبع مجرم لجأ إلى المسجد هربا من الفتك به، فإذا بالشرفاء من الرجال والنساء خلفه يقتحمون بيت الله وفي أياديهم بالطبع ما تيسر من أسلحة بيضاء، ليُخرجوا منه المجرم وقد صرفوا المصلين عن صلاتهم بعد أن اقتحموا الصف.هناك مثلا مجموعة من الخارجين ظهروا في منطقة عين شمس وقد ركبوا عدد 2 توك توك، ومعهم خرطوش وأخذوا يحطمون سيارات متواجدة في الشارع وأصابوا طفلا صغيرا في وجهه.و لا تسمح المساحة ولا وقت قارئي العزيز بسرد نماذج إضافية لمزيد من حالات العنف التي نشهدها ونبكي حالنا الذي صرنا إليه.
و وسط كل هذا الغُثاء، تبدو بارقة أمل حين تُظهر بعض الفيديوهات لحظات القبض على عدد من البلطجية الذين يروعون الامنين، سواء تحت تأثير المخدرات أو استقواء بما يحملون من أسلحة بيضاء أو نارية غير مرخصة، او ظنا منهم أن أجهزة البحث الجنائي مشغولة عنهم بمهام أكبر. لكن أجهزة الداخلية رغم كثرة الأعباء وتزايد أعداد الخارجين على القانون، تمارس دورا مهما ما تزال، يساعدها في هذا إقدام المواطنين على الإبلاغ عما يشاهدونه، وتلك الكاميرات التي صارت منشرة ولله الحمد في كل الشوارع وأمام المحلات، فتسجل الجرائم لتكون حجة على مرتكبيها ومن يتصدى للدفاع عنهم.
و هنا نرى ضرورة تدخل المشرع لفرض الانضباط والعودة لحالة السلم المجتمعي، فالقانون والقانون وحده، هو الرادع لكل الخارجين عن تقاليدنا وأعرافنا، ثم يأتي الدور على دُور العبادة، ووسائل الإعلام، وصُناع الأعمال الفنية وكذلك مراكز الشباب لضبط الشارع وتوعية المواطنين بتبعات العنف وعواقبه وعقوباته، بل وبتجريس الخارجين الذين يتم ضبطهم وإنفاذ القانون فيهم عاجلا لسرعة الردع. بهذا يبقى مجتمعنا محصنا بالقيم والأخلاق، وننبذ تلك الظواهر الدخيلة الطارئة التي يلفظها المجتمع ويرفضها، لأنها لا تعبر عن طبيعة الحياة بمصر بأي حال من الأحوال. ومن هنا فقد وجب على العقلاء في مجتمعنا أن يتصدوا لكل هذا العنف فعلا، لا قولا.