المساعدات الإنسانية: استجابة تل أبيب مشروطة برغبة واشنطن!

المساعدات الإنسانية: استجابة تل أبيب مشروطة برغبة واشنطن!

يتساءل كثيرون: لماذا عادت إسرائيل إلى الحرب في غزة، وهي التي دمرت القطاع وقتلت عشرات الآلاف من سكانه، وقلصت قدرات حماس العسكرية؟.. وكانت الإجابة واحدة: بتسلئيل سموتيرتش، وزير المالية الإسرائيلي!.. هذا الرجل الذي وصف فكرته عن النصر الإسرائيلي، في إنه يتصور أن غزة (مدمرة بالكامل) وأن سكانها نازحون.. وقال إن سكان غزة سيتم تهجيرهم نحو الجنوب، إلى (منطقة إنسانية) في جنوب الأراضي الفلسطينية ثم (يغادرون بأعداد كبيرة) إلى دول أخرى.. من هناك، كما قال، سيبدأون (بالمغادرة بأعداد كبيرة) إلى دول ثالثة.. وأعرب عن أمله في ضم الضفة الغربية رسميًا قبل نهاية ولاية الحكومة الحالية.. في هذه الأثناء، أعربت باريس وبكين عن تحفظاتهما ومعارضتهما لخطط إسرائيل لتوسيع هجومها على غزة، فيما عُرف بعملية (عربات جدعون).في نفس الوقت، كشفت صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية، أن مسئولي الولايات المتحدة أبلغوا حكومة إسرائيل، أن واشنطن ستتخلى عنها في حال استمر العدوان الإسرائيلي على غزة.. ونقلت الصحيفة عن مصدر لم تكشف هويته (مطلع على المناقشات)، قوله، إن ممثلي ترامب أبلغوا إسرائيل أن واشنطن (ستتخلى) عن تل أبيب إذا لم تُنهِ الحرب، (يُخبر فريق ترامب إسرائيل: سنتخلى عنكم إذا لم تُنهوا هذه الحرب)، مضيفًا، (سياسيًا، كما في الماضي، لدى نتنياهو طريقة للقيام بذلك، بأغلبية ساحقة في الكنيست وفي إسرائيل، لكنه يفتقر إلى الإرادة السياسية).وبعد أن أعلنت إسرائيل أنها بدأت (عمليات برية واسعة النطاق) في غزة، كجزء من حملة موسعة للسيطرة على مساحات كبيرة من القطاع، تراجع نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، عن زيارة إسرائيل.. قال مسئول أمريكي كبير لوكالة أكسيوس، إن نائب الرئيس كان حذرًا في الإشارة إلى دعم واشنطن لقرار إسرائيل بشن عملية عسكرية واسعة النطاق في المنطقة.. وقد وصف فانس ما يُقال عن سبب إلغاء زيارته لإسرائيل، بأنه (مبالغ فيه)، قائلًا إنه كان يفكر في القيام بزيارة إسرائيل، بعد حضور حفل تنصيب بابا الفاتيكان الجديد، ليون الرابع عشر، في روما، لكن الأمور تعطلت بسبب مشكلات (لوجستية)، إلا أن مسئولًا إسرائيليًا كبيرًا أكد لوكالة أكسيوس، إن فانس كان يفكر في الزيارة، لأنه يعتقد أن اتفاق إطلاق النار والرهائن وشيك، وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية فعلًا، أنه قد يصل إلى البلاد هذا الأسبوع.. إلا أن المسئول الأمريكي ذكر، أن فانس قرر عدم القيام بالرحلة، عندما أثار فريقه مخاوف، من أن يُنظر إليها في الشرق الأوسط على أنها موافقة أمريكية على العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.في مواجهة ذلك، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن إسرائيل تخطط للسيطرة على قطاع غزة، مع استئناف تسليم الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية إلى القطاع الصغير، واصفًا المجاعة الجماعية المحتملة هناك، بأنها (خط أحمر) يمكن أن يكلف إسرائيل دعمها من الولايات المتحدة.. وفي مقطع فيديو نشر على وسائل التواصل الاجتماعي، قال نتنياهو، إنه على الرغم من أن إسرائيل تنشر (قوة هائلة للسيطرة على قطاع غزة بأكمله.. لا يمكننا الوصول إلى نقطة الجوع لأسباب عملية ودبلوماسية).. وأضاف، أن (أقرب أصدقاء إسرائيل في العالم)، بمن فيهم سياسيون أمريكيون، أخبروه أنهم لا يتزعزعون في دعمهم، لكنهم لا يستطيعون (التعامل مع صور المجاعة الجماعية)، لكن ما تم السماح بإدخاله أمس إلى القطاع، لم يتجاوز خمس شاحنات، تمثل نقطة في بحر احتياجات أهل القطاع إلى الغذاء والدواء وغيرها، مما ضمنته واشنطن ووعدت به حماس، خلال المحادثات معها، وأكدت، أن إسرائيل ستسمح بدخول بعض الإغاثة إلى غزة، إذا أطلقت حماس سراح الرهينة الإسرائيلي الأمريكي، إيدان ألكسندر.وقد أدان حلفاء غربيون آخرون، من بينهم بريطانيا وكندا وفرنسا، قرار إسرائيل توسيع عملياتها العسكرية في غزة وهددوا بـ (إجراءات ملموسة)، إذا لم توقف هجومها ورفعت القيود المفروضة على المساعدات التي أوقفتها تل أبيب في الثاني من مارس الماضي.. وفي بيان مشترك أمس الإثنين، قال مسئولون من الدول الثلاث، إن (مستوى المعاناة الإنسانية في غزة لا يطاق)، وأن تحرك إسرائيل للسماح بدخول كمية أساسية فقط من الغذاء، كان (غير كافٍ على الإطلاق.. ولن نقف مكتوفي الأيدي، بينما تواصل حكومة نتنياهو هذه الأعمال الفظيعة.. إذا لم توقف إسرائيل الهجوم العسكري المتجدد، ورفعت القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية، فسنتخذ المزيد من الإجراءات الملموسة ردًا على ذلك).. ورد نتنياهو متهما زعماء الدول الثلاث، بـ (تقديم جائزة ضخمة) لمقاتلي حماس، الذين هاجموا إسرائيل في السابع من أكتوبر، و(الدعوة إلى ارتكاب المزيد من هذه الفظائع).ولأول مرة، منذ أن فرضت إسرائيل أطول حصار للحرب التي بدأتها في قطاع غزة، بعد هجمات حماس في السابع من أكتوبر 2023، يعترف نتنياهو علنًا ـ في خطابه ـ بخطر الجوع في القطاع، على الرغم من التحذيرات المتكررة من خبراء عالميين في مجال الجوع، بما في ذلك هذا الشهر، من أن السكان معرضون لخطر المجاعة.. ومع أنه تم إبلاغ وكالات الإغاثة، أنه بدءًا من يوم الاثنين إلى الجمعة القادم، سيسمح لنحو مائة شاحنة إغاثة يوميُا بالدخول، إلا أن منسق منسق الشؤون المدنية في الأراضي الفلسطينية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، قال، إن خمس شاحنات محملة بمساعدات، بما في ذلك (طعام للأطفال)، عبرت إلى غزة.. مما حدا بتوم فليتشر، منسق الإغاثة في حالات الطوارئ في الأمم المتحدة، إلى القول، (قطرة في المحيط، يجب أن تصل إلى المدنيين الذين يحتاجون إليها بشكل عاجل، ويجب السماح لنا بالتوسع).. وأقر المسئول في حماس، باسم نعيم، بأن كمية المساعدات ستكون (غير كافية.. مقارنة بالاحتياجات الحقيقية للناس).. لكنه قال، إن قرار إسرائيل بالسماح لبعض الشاحنات بالدخول، (لا يمكن أن ينظر إليه، إلا على أنه كسر في إرادتها).●●●في إسرائيل، جاء التحول الحاد لنتنياهو في أعقاب ضغوط عامة جديدة، وضغوط من وراء الكواليس من إدارة ترامب.. خلال جولته في دول الخليج العربي الأسبوع الماضي، قال ترامب، إن (الكثير من الناس يتضورون جوعًا) في غزة.. تم استبعاد إسرائيل من الرحلة، التي زار خلالها ترامب المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، وقال رجال ترامب الذين يعلمون إسرائيل، (سنتخلى عنك إذا لم تنهِ هذه الحرب).. وقال رئيس الوزراء، إن إسرائيل ستطلق آلية مساعدات إنسانية بديلة مدعومة من الولايات المتحدة في الأيام المقبلة، والتي من خلالها سيؤمن الجيش الإسرائيلي مراكز توزيع يديرها متعاقدون أمريكيون من القطاع الخاص، ويتجاوز منظمات الأمم المتحدة التي تعاملت حتى الآن مع معظم عمليات الإغاثة.. وأكد أن المراكز كانت مخصصة للمدنيين وليس لحماس، التي اتهمتها إسرائيل بالنهب والاستفادة من تدفق المساعدات الإنسانية، بينما تدعي تل أبيب، أن خطر المجاعة (هندسته حماس(، وتشكك جماعات الإغاثة وبعض المسئولين الأمريكيين في هذا الادعاء، ولم تقدم إسرائيل أدلة على مثل هذه السرقة الواسعة النطاق، كما تقول!.وفي بيان مشترك آخر، قال مسئولون من أكثر من عشرين دولة مانحة، بما في ذلك أستراليا وألمانيا وهولندا وإسبانيا، إن شركائهم في المجال الإنساني لن يشاركوا في آلية المساعدات الجديدة، (إنه يعرض المستفيدين وعمال الإغاثة للخطر، ويقوض دور واستقلالية الأمم المتحدة وشركائنا الموثوق بهم، ويربط المساعدات الإنسانية بأهداف سياسية وعسكرية.. في وقت لا ينبغي فيه أبدًا تسييس المساعدات الإنسانية، ويجب عدم تقليص الأراضي الفلسطينية أو إخضاعها لأي تغيير ديموجرافي).وأثار قرار نتنياهو أيضًا اتهامات غاضبة بالاستسلام لحماس، خلال اجتماع الحكومة الذي عقد مساء الأحد حول هذه القضية، بما في ذلك من وزير الأمن القومي، إيتمار بن جفير، الذي قال إن نتنياهو يرتكب (خطأ فادحًا).. لكن شركاء رئيس الوزراء الآخرين في الائتلاف، أيدوا علنًا هذه الخطوة، مرددين مزاعم نتنياهو، بأنه لن يؤثر على أهداف الحرب الإسرائيلية (المترابطة)، المتمثلة في تدمير حماس وإعادة الرهائن الثمانية وخمسين، الذين ما زالوا محتجزين في غزة، وتعتقد السلطات الإسرائيلية أن ثلاثة وعشرين منهم على قيد الحياة.. بينما قال وزير المالية اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، المساعدات التي تدخل غزة (لن تصل إلى حماس.. وسيُسمح للمدنيين بتناول الطعام، وسيُسمح لأصدقائنا في جميع أنحاء العالم بمواصلة توفير الحماية الدولية لنا، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ولاهاي، ولنا أن نواصل القتال حتى النصر).. لقد (باع فكرة استئناف المساعدات في اجتماع مجلس الوزراء ليلة الأحد، بالقول إنها كانت مجرد مسألة تقنية).●●●فيما يتعلق بالمساعدات، كان يجب على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الموازنة بين حلفائه السياسيين اليمينيين الذين يعارضون إرسال الغذاء إلى غزة، والحلفاء الأجانب ـ بمن فيهم إدارة ترامب ـ الذين يخشون أن يؤدي الحصار إلى مجاعة.. ويعكس الغموض بشأن الغزو البري على قطاع غزة، حاجة نتنياهو إلى إرضاء وزراء الحكومة اليمينيين المتطرفين، الذين يدفعون باتجاه إعادة احتلال غزة بالكامل، وكبار جنرالات إسرائيل، الذين يعتقدون أن مثل هذه الخطوة ستكون صعبة التنفيذ، وخطيرة على الرهائن المحتجزين في غزة.. لكن السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، دانييل شابيرو، يؤكد أن (نتنياهو، كما هو الحال دائمًا، يفضل شراء الوقت وليس اتخاذ القرار).منذ عدة أشهر، حاولت إسرائيل الضغط على حماس، من خلال التهديد بشن هجوم بري جديد كبير في غزة، وفي الوقت نفسه قطع المساعدات عن القطاع.. إلا أنه، أمس الاثنين، تراجعت إسرائيل عن موقفها بشأن المساعدات، وسمحت بدخول بضع شاحنات محملة بالمواد الغذائية إلى غزة.. ورغم تصعيد خطابها وغاراتها الجوية على غزة في الأيام الأخيرة، لم يبدأ الجيش الإسرائيلي بعدُ التقدم الكبير الذي طال انتظاره، والذي سيشمل آلاف القوات البرية.. يعكس غياب الوضوح الاستراتيجي هذا، خلافات داخل القيادة حول أولويات إسرائيل.. في حين يسعى وزراء اليمين المتطرف في الحكومة إلى السيطرة الدائمة على غزة، فإن القيادة العسكرية لديها شكوك حول استدامة الاحتلال، نظرًا للمخاوف بشأن استعداد جنود الاحتياط العسكريين لتولي المسئولية على مدى فترة طويلة من الزمن، والقلق بشأن مصير الرهائن، كما قال شابيرو، وهو الآن زميل في المجلس الأطلسي، المجموعة البحثية ومقرها واشنطن.ويُعزى تأخير العملية البرية أيضًا إلى ترقب إسرائيل رد فعل حماس، على جولة جديدة ومكثفة من المفاوضات حول وقف إطلاق النار، وسط ضغوط من إدارة ترامب على الجانبين للتوصل إلى هدنة.. وتضغط إسرائيل على حماس لإطلاق سراح عدد من الرهائن مقابل هدنة مؤقتة، بينما تتمسك حماس باتفاق دائم.. لكن إسرائيل تأمل أن يدفعها خوفها من خسارة المزيد من الأراضي إلى القبول بأقل من ذلك.. وهنا، ترى الدكتور شيرا إيفرون، مديرة الأبحاث في منتدى السياسة الإسرائيلية، وهي مجموعة بحثية مقرها نيويورك، أنه (يجب قراءة كل شيء في سياق المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار الجديد واتفاقية الرهائن).. تقول إيفرون، (بدأت إسرائيل عملية برية جديدة، لكن لا يزال من الممكن عكس مسارها.. في الوقت الحالي، تُعدّ هذه العملية أداة تفاوضية، فهي تزيد الضغط على حماس لتقديم تنازلات في المحادثات).. وكما أن التأخير في العملية البرية يمنح المفاوضين مزيدًا من الوقت للتوصل إلى حل وسط، فإن التراجع عن المساعدات يمنح إسرائيل مزيدًا من الوقت لمواصلة قصف غزة، لكن، في الأيام الأخيرة، انضمت إدارة ترامب ـ الداعم الأجنبي الرئيسي لإسرائيل ـ إلى قائمة طويلة من الزعماء الأجانب، الذين حذروا من المجاعة في غزة.. وقال نتنياهو، إن استئناف المساعدات كان ردًا على هذه الانتقادات، ومحاولة للحفاظ على الدعم الأجنبي للحملة الإسرائيلية.. يؤكد نتنياهو، في مقطع فيديو نُشر على الإنترنت، (يجب ألا نصل إلى حد المجاعة، لا كمسألة واقعية فحسب، بل كمسألة دبلوماسية أيضًا.. فبدون استئناف المساعدات، لن تحظى إسرائيل بالدعم، ولن نتمكن من تحقيق النصر).لقد كان هذا تحولًا في اللهجة، لم يكن من الممكن تصوره قبل أيام قليلة.. منذ شهر مارس الماضي، منعت إسرائيل وصول الغذاء والوقود إلى غزة، حتى مع تحذير منظمات الإغاثة وبعض الجنود الإسرائيليين، من أن القطاع على شفا المجاعة.. رفضت الحكومة الإسرائيلية هذه الدعوات، مؤكدةً أن مخزونات الغذاء في غزة كافيةٌ لمنع المجاعة.. وفي حال استئناف المساعدات، قالت إسرائيل إنها ستُوزّع من قِبَل شركة خاصة جديدة، تتجاوز بذلك الأمم المتحدة، التي تُدير توزيع المساعدات، وحماس، التي اتهمتها إسرائيل بسرقة المساعدات والتربح منها.. لكن أمس الاثنين، طلبت إسرائيل مجددًا من الأمم المتحدة إحياء عملياتها الإغاثية، وفقًا لما أعلنته الأمم المتحدة.. الشركة الخاصة التي خُصصت لتحل محل الأمم المتحدة ـ مؤسسة غزة الإنسانية ـ لا تعمل بكامل طاقتها، ولذلك لا تزال إسرائيل تعتمد على مساعدات وكالات الإغاثة القائمة.. تقول الدكتور إيفرون، إن التراجع عن المساعدات سلط الضوء على مهارات نتنياهو في التلاعب بالأمور، (يحاول نتنياهو القيام ببعض الأمور.. بإعلانه عن عملية برية أوسع، يُظهر لقاعدته الشعبية أنه يفعل شيئًا ما.. وبإعلانه استئناف المساعدات، يستجيب لضغوط إدارة ترامب، ويكسب المزيد من الوقت لمفاوضات الأسرى).. لكن، يبدو أن تحركاته المتوازنة لم تنجح في تهدئة المخاوف في المجتمع الدولي، بشأن سلوك إسرائيل في الحرب أو الوضع الإنساني.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.