عندما نزل الوحي الأول: اقرأ… لماذا انقطعنا؟

في لحظةٍ غيّرت مسار الإنسانية، كان أول ما نزل من السماء إلى الأرض هو: “اقرأ” لم تكن كلمة عادية، بل إعلان صريح أن هذا الدين جاء ليقيم صرحًا للعقل، وليٌنشئ حضارة قوامها الفهم والمعرفة، لا التكرار والتلقين، في تلك اللحظة التي نزل فيها الوحي على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بدأ الله أمره بالعلم. قال تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم”، وإذا كانت أول آيات القرآن تدعو للعلم، وكانت أول معجزة كلمة، وأول أدوات النبوة القلم، فكيف أصبحنا – نحن حملة هذا الكتاب – أمة تقف في آخر صفوف الحضارة؟إن العلم في القرآن ليس هامشًا بل هو قلب وجوهر الرسالة القرآنية، وفي كتاب الله أكثر من 750 آية تدعو للتفكر والتأمل والعقل، ومن هذه الآيات: – “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”، ثم أن الله لم يأمرنا فقط أن نعرف، بل ربط المعرفة بالإيمان، وفي المقابل، اظهر القرآن أن الجهل هو العدو الأكبر، حين قال تعالى: “ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، وفي قوله تعالى: “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ”.ورغم هذا الوضوح الذي لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، صار العلم اليوم خصما، ومع مرور الزمن، حدث شرخ بين جوهر الدين كما أنزله الله، وبين ما يطبقه الناس منه، فخرج مصطلح “الدين الشعبي”، وتجمدت جهود تجديد الفكر الديني، حتى وٌصِف السؤال بالريبة، وأُغلقت أبواب الاجتهاد، وصار الطالب الذي يسأل يُوبّخ، والباحث يُخوّن، والعَالِم الذي يخرج عن السياق يُكفّر، لذلك أصبحنا مجتمع لا يقرأ، لا يبحث، لا ينتج، بل يستهلك وينتظر المعجزات.لم يكن طريق العلم مفروشًا دومًا بالورود، بل كثيرًا ما كان محفوفًا بالأشواك، وكم من عالِم أو مجدد دفع ثمن شجاعته في طرح الحقائق، حين تعارضت اكتشافاته مع سلطات دينية أو سياسية أو اجتماعية، ففي صفحات التاريخ شواهد عديدة تروي مآسي الاضطهاد الذي تعرض له العلماء، لا لأنهم أخطأوا، بل لأنهم سبقوا عصرهم أو تصادموا مع قوالب جامدة اعتادت أن ترى في التجديد خطرًا، ومن محاكم التفتيش في أوروبا إلى حملات التكفير في الشرق، تتكرر المأساة نفسها بأشكال مختلفة، ويبقى السؤال: لماذا يُعادىَّ العلم في بعض اللحظات الفاصلة من التاريخ، رغم أنه كان دومًا سبيلًا للتقدم ونهضة الأمم؟لقد سُجن الإمام أبو حنيفة النعمان بسبب جرأته في الاجتهاد ورفضه التنازل عن الحق، وتعرض ابن تيمية لمحاكمات متعددة وسُجن مرات عدة، واتهم الإمام الشوكاني بالإلحاد والضلال بسبب دعوته للاجتهاد، وبسبب إصلاحاته في التعليم ودمج العقل بالنقل تعرض الإمام محمد عبده للتكفير أيضا، كما اتُّهم الشيخ رفاعة الطهطاوي بالإلحاد بسبب أفكاره المتحررة وتأثره بالغرب، وواجه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حملة تكفير بسبب منهجه العلمي في دراسة التراث، أما المفكر المصري نصر حامد أبو زيد الكاتب والباحث المتخصص فى الدراسات الإسلامية وفى فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية، كان من أحد ضحايا الحسبة في مصر، وتعرض أبو زيد لتهمة التكفير بسبب أفكاره المعارضة للرأي التقليدي في الإسلام،فقد حُكم عليه بالردة والتفريق عن زوجته على أساس أن الزواج بين مسلمة وغير مسلم غير جائز، مما جعل حياته وحياة زوجته في خطر، وقرر مغادرة مصر إلى المنفى الاختياري في هولندا.كانت بداية الأمر كان بسبب كتابات أبوزيد خاصة كتابه “مفهوم النص”، واشتعلت الأزمة بعد تقديم أبو زيد أبحاثه بعنوان “نقد الخطاب الديني” للحصول على درجة الأستاذية عام 1995، ليٌرفع ضده دعوى حسبة تطالب بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس التى هاجرت معه بعد الحكم بتفريقهما، وخلال الجلسة فى المحكمة رفض نصر حامد ابو زيد نطق الشهادتين وذلك لأنه ضد التفتيش فى نواياه، وتتمثل الواقعة فى طلب هيئة المحكمة أبو زيد بالنطق بالشهادتين، وهو ما رفضه أبو زيد لرفضه فكرة التفتيش عن النوايا كما قال هو فى محاضرة له بالخارج بعد ذلك، وبدأ المحاضرة بنطق الشهادتين.ولا ننسى أيضا ما تعرض له المفكر والكاتب الكبير الدكتور مصطفى محمود من الاتهام بإنكار الشفاعة وسبب الخلاف أن الدكتور مصطفى محمود كان يرى أن القرآن الكريم ينفي الشفاعة في الكثير من آياته المحكمة نفيا مطلقا وفي آيات يذكرها مقيدة ومشروطة بينما تروي لنا بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله أن محمدًا عليه الصلاة والسلام يقف شفيعا يوم القيامة للمذنبين ولأهل الكبائر من أمته وأنه يخرج من قضى عليهم بالعذاب في النار ويدخلهم الجنة، وكان جوهر رأي الدكتور مصطفى محمود هو مطالبته بقراءة السيرة النبوية الشريفة – التي لم ينكرها – من خلال القرآن الكريم لمزيد من الفهم والتفسير، وأنه رفض الاعتماد على الروايات التي تٌدخل الناس الجنة بغير حساب لمجرد أنهم تلفظوا بكلمة التوحيد، فكان يرى أن التوحيد ليس مجرد كلمة وانما حقيقة تملأ القلب ويترجمها العمل ويؤكدها السعي في الأرض وفي مصالح الناس وتعبر عنها حركة الحياة بأسرها. وحكاية صراع العلماء مع رجال الدين قديمة وتاريخية، فالتاريخ مكتظ بمحاكم التفتيش الدينية والتي جسدت لقمع العقل باسم الدين، ففي أوروبا، في العصور الوسطى، حُكم على الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو بالإعدام حرقًا عام 1600م، أما جاليليو جاليلي فقد أُجبر على إنكار اكتشافاته في 1633م تحت تهديد الكنيسة.وفي التاريخ الإسلامي القديم نجد أن التكفير والرمي بالإلحاد تهمة مارسها بعض “فقهاء” المسلمين، وكل من حكم عقله وقدمه عن النقل، قالوا إنه كافر، وكل من رفض التخلف والجهل وخالف رأي الحكام والسائد من الفكر، قالوا إنه كافر… وليتهم اكتفوا، بل الأدهى من ذلك أنهم استباحوا دماءهم، ونجد مثلا “ابن حيان” وكان واحدا من أبرع العلماء في مجالات عدة، أبزرها الكيمياء، حتى اعتبر أول من استخدم الكيمياء عمليا في التاريخ، فلقب نظير ذلك بـ “أبو الكيمياء” ولأنه كذلك، لم يسلم من تهمتي الزندقة والكفر، وقالوا عنه أنه ساحر من كبار السحرة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات.أما الفارابي والذي يعد واحدا من أبرز الفلاسفة في التاريخ الإسلامي، كما ذاع صيته في الطب، وبسبب اهتمامه بالمنطق، لقب بـ “المعلم الثاني”، إسوة بأرسطو، المعلم الأول، فقد اتفق الفقهاء على كفره وزندقته، ولم ينجو أيضا من محاصرة الفقهاء ورجال الدين الشيخ الرئيس ابن سينا وكان طبيبا بارعا، من أشهر آثاره كتاب “القانون في الطب”، والكندي الذي برع في علوم كثيرة كالفلسفة والمنطق والطب والرياضيات والفلك، وقد كتب فيها جميعا ما لا يقل عن 260 كتابا، ويلقبه بالبعض بمؤسس الفلسفة العربية الإسلامية، فقد تعرض للمحاكمات والنقد اللاذع لاذع لكونه رأى أن العقل هو جوهر التقرب من الله.إن الخطأ الشائع أن العلم والدين خصمان، والحقيقة أن العلم الصحيح والدين الصحيح لا يتصادمان لأن مصدرهما واحد هو الله الخالق سبحانه وتعالى، وكل اكتشاف علمي يٌعزز الإيمان بعظمة الخالق، مثل علم الجينات وتكوين الجنين وحركة الكواكب، ورغم أن ألبرت أينشتاين لم يكن يعتنق دينًا بشكل مباشر، بل كان يعتبر نفسه غير مؤمن دينيًا مع أنّه كان يفتخر بكونه يهودي الأصل، إلا أنه أعترف في النهاية أن العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى.إن القضية ليست في دين محدد، بل في الجمود والتسلط حين يرتدي الدين عباءته، وإذا كانت أوروبا قد خرجت من عصور الظلام إلى التنوير، فحري بنا أن نعيد النور إلى مكانه الطبيعي: العقل والروح معًا.إننا اليوم في مصرنا الحبيبة، التي نواجه فيها تحديات ضخمة اقتصادية واجتماعية وثقافية، نحن بأمس الحاجة لأفكار وحلول خارج الصندوق، تحتاج إلى عقل مفتوح ومبدع وملتزم أيضا، نحتاج لعلمائنا الحقيقيين الذين يجرؤون على الاجتهاد الصحيح في إطار جوهر الدين الذي لا يختلف مع العلم، نحتاج للباحثين الذين لا يخافون السؤال، وللناس الذين لا يرضون بالجمود والتخلف.لقد بدأت دعوتنا بـ “اقرأ”، فلنعد إليها لننهض من جديد.