درس في القيم والكرامة

درس في القيم والكرامة

(١)
(اقفز يا باسم.. 
معاك يا فندم..أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.)
كان هذا آخر ما نطق به الشهيدان رائد طيار محمد سيد سليمان..وملازم طيار باسم شبل. لم تكن حادثة عادية، بل درسا فى معانى الرجولة والشرف.. لحظة اختيار خاطفة قرر فيها الشهيدان أن يفتديا الضحايا المحتملين من شعبهم إن قررا القفز من الطائرة – بعد اكتشاف عطل تقنىٌ بها – وهى فوق منطقة رأس البر السكنية. 
ماذا تعنى هذه العبارات القاطعة الحاسمة؟ أتت الإجابة من والد الشهيد باسم. إجابة نضعها جمبا إلى جمب مع هذه العبارات..
(معاك يا فندم وأبويا هيتعب.
معاك يا فندم وأمى هيتحرق قلبها.
معاك يا فندم وأنت بتخسر حياتك.
بس معاك يا فندم وإنت واخد قرار البطل قرار بنهاية حياتك فى الدنيا.
بس بداية حياة أجمل يا أحلا عريس فى الجنة يا ابنى وأخويا.)
هذه هى القصة التى صيغت أحرفها من نور وشرف ورجولة، وأغلى ما يمكن أن تجود به أمٌ ويمنحه أبٌ لوطن وشعب.. فلذة كبدهم..نور حياتهما..ابنهما الشاب. 
هذه هى ثروة مصر الحقيقية وإرثها الأعظم..رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولقد عاهدوه أن يفتدوا هذا الوطن وشعبه وترابه بأغلى ما يمكن أن يفتدى به أحدٌ آخرين، وهى أرواحهم. 
إرث مصر وكنزها هذه الأسر التى ربت فأحسنت التربية، وهذه المؤسسة التى أعدت فأحسنت الإعداد، وهذه القيم التى عز وجودها فى هذا المحيط البائس المحيط بمصر.. قيم اختيار الرجولة والشرف حتى لو وضعت فى مقابل الحياة لشابين فى مقتبل أعمارهما. فهنئيا لهما الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء وهنيئا لهذا الوطن برجاله وشرفه ومهما تكن الكلمات الموجهة لهذه الأم وهذا الأب فلن تتمكن من بلوغ قيمة ما قدماه لهذا الوطن وهذا الشعب.
(٢)
لا أستطيع مقاومة المقارنة، وسأقارن، وسأضع ما تموج به مشاعرى أمام هؤلاء المغيبين. 
من أحق بأن يكون هو النموذج الحقيقى لقيم الإسلام، هذان الشهيدان، أم الذين اتخذوا من أجساد أطفالهم وذويهم وأعراض نسائهم دروعا تتلقى قبلهم ضربات القنابل الحارقة؟
من أحق بأن نجعله أيقونات لأبنائنا، هذان الشهيدان، أم الذين اتخذوا من أسفل مستشفى مخبأ وهم يدركون أن المرضى والمصابين والرضع سوف يلقون حتفهم أولا؟ 
من أحق بأن نسمع قصص استشهادهم فوق منابرنا، هذان الشهيدان أم غزاة غزوا بلادا غير بلادهم منذ قرون طويلة لتقسيم غنائم تلك البلاد واقتسام نسائها سبايا؟ 
من أحق بأن تُرفع صورهم فوق الرؤوس ويُهتف بأسمائهم وتقام الفعاليات للإحتفاء بهم فى مقر نقابة صحفيى مصر، هذا الشهيدان أم قادة عصابات اعتدت على مصر واتخذت من شعبها دروعا بشريا؟ مابكم يا بعض المصريين؟  كيف تدعون الباطل حقا والحق أمام أعينكم يدينكم ويقيم الحجة بالنفس على تهافت رؤاكم؟!
(٣)
فى سنوات مواجهة القوات المسلحة لعصابات الإجرام الخائنة، واجهت هذه القوات المصرية معضلة كبرى. واجهت الخسة فى أقبح صورها. كان مجرمو هذه العصابات يتخفون نهارا بين الآمنين من مواطنى سيناء الشرفاء. ثم مساءً يهاجمون الأكمنة ويحاولون تفخيخ الطرق. أسهل ما يواجهه جيشٌ نظامى هو قوات عسكرية معادية صريحة معروفة. لكن أصعب ما يمكن أن يواجهه جيشٌ شريف هو أن يواجه مجرمين يجعلون من مواطنين أبرياء دروعا. ما فعله الشهيد محمد سيد سليمان والشهيد باسم شبل هو عقيدة قواتنا المسلحة الشريفة. وهذه العقيدة التى تجود بالنفس راضية مرضية حتى لا تتسبب فى احتمالية إيذاء مواطن واحد هى التى أطالت أمد مواجهات سيناء، وهى التى ربما تسببت فى فقد مصر لبعض شهدائها من إرثها الأثمن والأشرف. 
فى الأعوام من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٤ تعاملت قواتنا المسلحة بنفس العقيدة وهى ترى الجماعة المارقة الخائنة وهى تمارس خستها المعتادة فى دفع مغيبين للاحتكاك بمواقع عسكرية مصرية. صبرت القوات المسلحة على مشاهد مشينة حتى لا يتم دفعها للتورط فى إصابة مصريين حتى لو كان هؤلاء المصريون فاقدى العقل وأحيانا الضمير الوطنى. 
فى ليالى الاعتصامات الإرهابية كنا نشاهد على الهواء مباشرة محاولات القوات المصرية حث المساقين من رؤوس جماعة الخيانة للخروج والإنصراف آمنين إلى بيوتهم. وصلت بعض هذه المحاولات إلى التوسل إليهم للإنصراف. 
وفى صباح تنفيذ القرار القانونى بفض هذه التجمعات الإرهابية أصرت قوات الشرطة المصرية وقوات إنفاذ القانون على فتح ممرات آمنة وأمنت الخائفين وساعدت النساء للخروج الآمن حتى بعض رصاصات الغدر التى انطلقت من فوق بعض المبانى. 
هذه هى ثروة مصر التى يحسدها عليها الجميع. هذا هو المعنى الحقيقى للترابط أو الرباط بين أهل مصر إلى أن تقوم الساعة. هذا هو الشرف المصرى الذى يسطع حين نضعه وجها لوجه مع مشاهد ما زلنا نعاصرها وبعض الجيوش تستبيح مواطنيها، أو مشاهد اقتتال طائفى أو قبلى بين مواطنى شعبٍ واحد، أو مشاهد أشباهٍ رجال يتخلون عن أوطانهم ويتركونها تواجه مصيرها وتُدهس تحت أقدام مايشيات أو جيوش معادية! 
(٤)
هؤلاء هم شهداؤنا وسادتنا وأبطالنا وهؤلاء هم مجاهدونا بحق. 
أنا أطالب القائمين على وزارتى التربية والتعليم والتعليم العالى أن يكتبوا سير هؤلاء الشهداء  فى مقررات دراسية يتم تدريسها لصغارنا فى المدارس والجامعات. وأن تطلق اسمى هذين الشهيدين على مدرستين. 
أنا أطالب وزارة الأوقاف بأن تجعل قصة استشهاد هذين البطلين موضوعا لخطبة الجمعة القادمة. وأطالبها بتدريس قصصهم لأئمتها.أنا أطالب وزارة الحكم المحلى بأن تضع اسم كلٍ منهما على الشارع الذى نشأ فيه. 
ألبست مصر أحق بشهدائها وسيرهم؟
أليس لهؤلاء الشهداء الحق فى أن نخلد سيرهم إن كنا جادين فى بعث الروح القومية المصرية؟ 
إلى متى ستستمر مصر فى التطوع بتخليد أسماء وسير أبطالٍ لا ينتمون إلى هذا الوطن؟! 
إلى متى ستستمر شوارعنا ومدارسنا ومساجدنا مثقلة بحمل أسماء غريبة عن هذا الوطن؟
هل مصر فقيرة فى سير الأبطال وقصص الفداء حتى تستعير أسماء وقصص أبطال لا ينتمون إليها؟ 
(٥)
فى العام ونصف عام الماضيين تعرض المصريون – خاصة الصغار منهم – لحملات تزييف وعى غير مسبوقة. لقد قدموا لهم نموذجا لبطل عبارة عن مجرم حقيقى وأغرقوهم برسومات ونماذج بالذكاء الصناعى لهذه الشخصية وهى تواجه مسيرة بعصا! 
لقد خدعوا المصريين عن عمد وقدموا لهم نموذجا اقترف أخس جريمة يمكن أن يرتكبها إنسان ضد بنى وطنه حين جعلهم دروعا بشرية وقربانا لتنفيذ جنونه.
وآخرون لم يخجلوا من أنفسهم وهم يدعون أنهم مثقفون وطالبوا بفتح أبواب نقابة مصرية لتلقى العزاء فى مجرم معتدٍ على مصر! 
الذين تطاولوا على القوات المسلحة الأشرف فى هذه المنطقة وزايدوا عليها وامتطاهم أعداؤنا، ألا يخجلون من أنفسهم وهم يتلقون هذا الدرس القاسى  من آخر عنافيد الشرف المصرى؟!  
الذين يتطوعون من بيننا  بالقيام بدور الإعلام المعادى للقوات المساحة وينشرون كل أكاذيب أجهزة المخابرات ومنصات الإعلام الصهيو عربية الموجهة ضد هذه القوات.. ألا يخجلون من أنفسهم؟ ألا يقفون مع أنفسهم لبضع دقائق لكى يدركوا كيف تم إمتطاؤهم لأكثر من عقدٍ كامل لغزو ثغور مصر والنيل من أشرف أبنائها؟ 
إنه من العار لنا جميعا أن نسمح لكل من سبق الإشارة إليهم بالاستمرار فى باطلهم وغيهم. 
نحن المصريون فى حاجة ماسة لوقفة قوية لتصويب الوعى المصرى العام. من حق هؤلاء الشهداء وحق رجال قواتنا المسلحة علينا أن ننتفض بقوة ضد كل شخص أو مؤسسة نراه أو نراها لا ينزل أو تنزل هؤلاء الرجال ما يستحقون، سواء كانوا شهداءً أو أحياء يستكملون طريق الشرف.
رحم الله الشهيدين وأسكنهما فسيح جناته مع الصديقين والشهداء. شكرا لأمهات وآباء الشهداء.. شكرا لأشرف من أنجبت مصر.