استمرار العنف العشوائي: الدوافع وراء تقديم المساعدات لقطاع غزة!

على الرغم من موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على تقديم مساعدات محدودة إلى غزة تحت ضغط الولايات المتحدة، فإن تنفيذ الخطة يثير القلق من المخاوف بشأن النزوح القسري للفلسطينيين، والمقاطعات التي تقودها العشائر داخل قطاع غزة، إلى الإخفاقات اللوجستية والمخاطر الأمنية المحيطة بالشركة الأمريكية المكلفة بتوزيع المواد الغذائية.. قال نتنياهو هذا الأسبوع، مفسرًا تراجعه الدراماتيكي عن السماح بدخول (الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية) إلى غزة، (يجب ألا نصل إلى حالة من الجوع، لا لأسباب عملية ولا سياسية.. إنهم ببساطة لن يدعمونا، ولن نتمكن من إكمال مهمة النصر).. ومن المرجح أن نتنياهو قصد بكلمة (عملي) الجانب الأخلاقي، وهي كلمة لم يعد من الممكن التلفظ بها أمام مجلس أمنائه، أي حكومته.. أما كلمة (سياسي)، فهي كناية حذرة عن الضغط الدولي المتزايد، الأمريكي بالأساس، الذي يهدد (النصر الكامل) لإسرائيل وسيطرتها العسكرية الكاملة على غزة.يرى الكاتب الإسرائيلي، تسفي بارئيل، في صحيفة (هآرتس) العبرية، أنه، بالنسبة لنتنياهو، تُعدّ الموافقة على المساعدات الإنسانية ثمنًا زهيدًا لمواصلة القتل العشوائي.. والجدير بالذكر أنه اختار في كلمته الأخيرة، الاستشهاد بضغوط من المشرعين الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل، بدلًا من التحذير الصارخ من مبعوث الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي أعلن أن الولايات المتحدة لن تسمح بحدوث كارثة إنسانية في غزة.. من المرجح أن نتنياهو يتذكر الضغط الذي مارسه الكونجرس على ترامب خلال ولايته الأولى، لإنهاء التدخل الأمريكي في حرب اليمن، وكيف أجبره على تعليق صفقات الأسلحة مع السعودية، قبل أن يستخدم ترامب حق النقض ضد القرار.. بعد أن أوقف بايدن شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، يصر نتنياهو على عدم وضع ترامب في مأزق مماثل.إذا كان قرار المساعدات قد صدر تحت ما يُشبه إنذارًا أمريكيًا، فقد كان تنفيذه غير مُبالٍ، رغم وجود متسع من الوقت للتحضير.. إذ أوضح جيك وود، رئيس مؤسسة المساعدات الأمريكية المُشرفة على التوزيع، في أول مقابلة له مع شبكة CNN (لن نكون جزءًا من أي شيء يُهجّر أو يُشرّد الشعب الفلسطيني قسرًا).. وقد أقرّ وود بأن الخطة (ليست مثالية)، إذ كانت تهدف في البداية إلى إطعام 1.2 مليون شخص فقط، مما يترك قرابة مليون شخص دون مساعدة.. لكن الخوف الأكبر، محليًا ومصريًا، هو احتمال استخدام مراكز الإغاثة لتهجير المدنيين قسرًا.يوم السبت، حذّرت هيئة تمثل العشائر الكبرى في جنوب غزة من (عسكرة الجهود الإنسانية وتحويلها إلى أدوات سيطرة ومراقبة وعمليات تفتيش مُقنّعة تحت ستار المساعدات).. وأضافت الهيئة أن (هذه الشركة الأمريكية لا تملك تفويضًا شرعيًا، ولا تحظى بقبول شعبي أو عشائري.. ونعتبر دخولها إلى غزة خطًا أحمر)، حصوصًا وأن الهيئة التي أنشأتها السلطة الفلسطينية، بالمناسبة، كانت واحدة من الهيئات التي حاولت إسرائيل في السابق تجنيدها، للمساعدة في إدارة غزة نيابة عن السلطة الفلسطينية، وهي المحاولة الذي تم رفضها.يتمحور هذا القلق ـ الذي تشاركه كبرى الشركات المحلية، بما فيها شركة الحلو للنقل، والتي رفضت المشاركة في مشروع المساعدات ـ حول إنشاء أربعة مراكز توزيع مُخطط لها: ثلاثة بالقرب من رفح وواحد على طول ممر نتساريم.. ستُجبر هذه المواقع سكان شمال غزة فعليًا على الانتقال جنوبًا للحصول على الغذاء.. وهنا، يقول مسئول كبير في السلطة الفلسطينية لصحيفة (هآرتس)، إن (هذه خطوة تهدف إلى تجميع مليوني شخص في منطقة صغيرة.. نخشى أن يكون الهدف منها تمهيد الطريق لطرد جماعي.. لن تضطر إسرائيل للإعلان عن عمليات إجلاء، بل ستكتفي بوضع أوعية الطعام، كما تفعل مع القطط الضالة، وتأمل أن يفد الناس.. ومن هنا، يصبح الطريق أقصر لفتح الحدود وعرض العبور إلى مصر)، التي عززت وجودها العسكري وراء السياج الحدودي، ولكنها غير مستعدة لسيناريو تدفق عشرات أو حتى مئات الآلاف من المدنيين إلى أراضيها، كما حدث عام 2008.. صحيح، أن القاهرة تلقت تأكيدات أمريكية وخليجية بمعارضة أي ترحيل جماعي من غزة، طوعيًا كان أم قسريًا.. وتقول مصادر عربية، إن ترامب وعد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، شخصيًا بمنع أي خطوة من هذا القبيل، لكن مصر لا تملك ضمانات حقيقية بأن إسرائيل لن تحاول تدبير ما تسميه (هجرة عفوية)!!.هناك سؤال آخر لم يُحسم بعد، وهو كيفية توزيع المساعدات.. ستتلقى كل أسرة طردًا غذائيًا وزنه عشرين كيلوجرامًا، يكفي لعدة أيام، مما يعني أن كبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة، والنساء الحوامل، والأطفال، سيضطرون إلى قطع مسافات طويلة كل بضعة أيام للحصول على الطعام.. وإن لم يتمكنوا من حمله، فلن يحصلوا عليه.. كما أن كيفية الحفاظ على العدالة غير واضحة.. ما الذي سيمنع العائلات الأقوى من أخذ أكثر من حصتها، أو من بيع الطعام في السوق السوداء، أو تسليمه لحماس؟.. كما يتساءل بارئيل.لقد سبق وأعلن وزير المالية الصيهيوني، بتسلئيل سموتريتش، أن (الجيش الإسرائيلي يستهدف أخيرًا حكومة حماس المدنية، وليس بنيتها التحتية العسكرية فحسب).. وأضاف أن منظمة إغاثة أمريكية ستبدأ قريبًا بتوزيع الغذاء مباشرة على المدنيين، (دون أن تصل حبة واحدة إلى حماس).. ويُعد هذا تحولًا ملحوظًا عن موقفه السابق، القائل بعدم دخول حبة غذاء واحدة إلى غزة.. كما لم يُشر سموتريتش إلى كيفية تأثير نقص الغذاء على الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين في غزة.. ويبدو أن هذا الأمر لا يُثير القلق.يقول وود، إن منظمته تخطط لتوزيع نحو ثلاثمائة مليون وجبة على مدار ثلاثة أشهر، أي ما يعادل 3.3 مليون وجبة يوميًا.. وهذا يثير قلقًا جديدًا: أمن مراكز المساعدات.. تتمتع الشركة الأمريكية المكلفة بتوزيع المساعدات، U.G. Solutions، بخبرة في تفتيش نقاط التفتيش في غزة، لكنها لا تملك خبرة في إدارة أعداد كبيرة من المدنيين.. ولا تزال قواعد التعامل مع متعاقديها الأمنيين غير واضحة.. ولا يزال إرث بلاك ووتر، التي قتل متعاقدوها سبعة عشر مدنيًا عراقيًا، يلوح في الأفق.. كيف سيتعامل هؤلاء الحراس مع نيران الهاون الإسرائيلية، أو مع حشود المدنيين الجائعين اليائسين؟.. في أي ظروف سيتدخل الجيش الإسرائيلي، المكلف بتأمين محيط القطاع؟.يُقال إن كل حارس من U.G. Solutions سيتقاضى ألف ومائة دولار يوميًا.. ومع وجود حوالي مائة حارس، يصل هذا المبلغ إلى مائة وعشرة آلاف دولار يوميًا، أو ما يقرب من عشرة ملايين دولار على مدى ثلاثة أشهر.. قد تصل تكلفة توزيع المساعدات نفسها إلى نصف مليار دولار.. ولم تكشف UG ولا مؤسسة المساعدات عن مصادر تمويلها، أو المبلغ الذي جُمعت منه، أو إلى متى ستستمر العملية.. بمجرد أن يدرك المانحون أنهم يمولون ما يبدو أنه امتداد للاحتلال الإسرائيلي، قد يتلاشى استعدادهم للعطاء.. عندها، قد تُجبر إسرائيل على تولي مسئولية التمويل، خصوصًا إذا كانت تنوي احتلال غزة بالكامل وتحمُّل مسئولية سلامة مليوني مدني.. لكن إذا حدث ذلك، فلن تكفي الطرود الغذائية لوقف ردود الفعل الدولية السلبية، أو العقوبات التي قد تلي ذلك.●●●ويتساءل الكاتب الإسرائيلي، يوسي فيرتر، في (هآرتس) أيضًا، عما فعله نتنياهو خلال الشهور الأخيرة، سوى أنه أبعد ترامب عن إسرائيل، وأثار غضب العالم المستنير بأكمله، ثم يعود إلى الاستسلام في مسألة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة، التي تسلط الضوء على إهمال الحكومة، التي اندفعت بسرعة نحو كارثة دبلوماسية، في حين تواصل إهدار (إنجازات) الأجهزة الأمنية.. حتى أشدّ مؤيدي الحكومة اليمينية الإسرائيلية، اضطروا للاعتراف بأنّ هذه ـ أي الحكومة ـ عصابة من الحمقى.. لقد كان تعاملها مع المساعدات الإنسانية لغزة مثالًا واضحًا على الدجل والشعوذة، يصطدم بعجزٍ مُطلق: استراتيجيةٌ معدومةٌ تُسفر عن أقصى ضرر، ثمّ تراجع كبير اتسم بمقاطع فيديو وتصريحاتٍ طفولية، من قِبَل من يُسمّون صناع القرار في إسرائيل.يواصل فيرتر، الغاضب من الفرص الضائعة على إسرائيل على يدي نتنياهو وحكومته، بالقول، إن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، كان قد تعهد قبل أقل من شهر قائلًا، (على جثتي، سوف تدخل حبة أخرى من المساعدات الإنسانية إلى غزة).. ومع ذلك، فقد بذل قصارى جهده لتبرير ضرورة السماح بدخول المساعدات الآن.. وأن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي أوقف قبل شهرين ونصف فقط كل المساعدات إلى غزة، بحجة أن (حماس لا توافق على إطار ويتكوف لوقف إطلاق النار وسوف تهاجم).. لكن نتنياهو أعلن يوم الاثنين الماضي، أنه لا يوجد خيار سوى السماح بدخول المساعدات، مستشهدًا بمخاوف من المجاعة الجماعية، ومدعيًا أن (أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي المؤيدين لإسرائيل)، يضغطون عليه للقيام بذلك.. وكم مرة تجهم نتنياهو في وجه إدارة الرئيس الأمريك السابق، جو بايدن، والمشرعين الديمقراطيين الذين طلبوا منه ذلك؟.. وكم تباهى بفخرٍ، بأن رئيس الوزراء أحيانًا (يضطر لقول ‘لا’، حتى لحلفائنا الأمريكيين)!!.لم يُعرف عن السياسة الإسرائيلية تعقيدها، ومع ذلك، كانت هناك أوقاتٌ منع فيها رؤساء الوزراء هذه التعقيدات من التدخل في القرارات السياسية ومسائل الأمن القومي.. في عهد نتنياهو، وخصوصًا في السنوات الأخيرة، حظيت السياسة وديناميكيات الائتلاف والحفاظ على الذات بالأولوية، بينما جاء كل شيء آخر في المرتبة الثانية.. اندفع نتنياهو بتهور نحو كارثة سياسية، لأن الوزيرين سموتريتش وبن جفير طالبا بذلك وهددا بحل الحكومة.. لقد اتخذ مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي قرار وقف المساعدات الإنسانية إلى غزة في الثاني من مارس الماضي، بناءً على افتراض أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تكترث بالعواقب الوخيمة.. ومع ذلك، اتضح أن، حتى الرئيس ترامب ـ (الإنساني) كما وصفه المبعوث الخاص ستيف ويتكوف ـ يشعر بالفزع مما يراه في غزة.. واتصل وزير الخارجية اليميني المتطرف، ماركو روبيو، بنتنياهو ثلاث مرات خلال 24 ساعة بشأن المساعدات.. وبالطبع، هناك أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، الذين يُزعم أنهم ودودون، وجميعهم يمينيون وداعمون.. لكن من الواضح أنهم ليسوا متعطشين للدماء مثل أعضاء اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو.. أما نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، الذي كان قد حزم أمتعته ومستعدًا لزيارة إسرائيل عزاءً لغياب ترامب مؤخرًا، فقد ألغى رحلته.. على الأرجح بسبب تجدد الحرب وعدم التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن.. وفي يوم الاثنين أيضًا، ذكرت صحيفة (واشنطن بوست)، أن مساعدي ترامب هددوا نتنياهو مؤخرًا بأنهم (سيتخلون عنه) إذا لم يُنه الحرب.باستثناء تحويل واشنطن (الجمهورية) إلى مرآة لإدارة بايدن، وإثارة غضب العالم المتحضر ـ بما في ذلك حلفاء إسرائيل الأوروبيين الأكثر دعمًا ـ لم تحقق إسرائيل شيئًا.. ومن المرجح أن حصص الرهائن الغذائية الشحيحة أصلًا قد تقلصت أكثر، ومع استئناف الجيش الإسرائيلي عملياته، تتفاقم معاناتهم.. لم يُفرج عن أي رهينة خلال هذه الأيام الثمانين الأخيرة.. وكان إطلاق سراح عيدان ألكسندر بادرة حسن نية من حماس تجاه ترامب، ومن المحتمل أن يكون إعادة فتح معابر غزة هو التنازل الحقيقي، وهو ما نفته وسائل الإعلام اليمينية.. ومن المرجح أن تقع معظم المساعدات في أيدي حماس.طوال تسعة عشر شهرًا، رفض نتنياهو دعم أي بديل لحكم حماس في غزة.. والآن، سيضطر هو ووزراؤه إلى الصمود مجددًا، بينما يستعيد قادة الجماعة ـ التي ارتكبت هجوم السابع من أكتوبر 2023، والتي تحتجز حاليًا ثمانية وخمسين رهينة، أحياءً وأمواتًا ـ السيطرة على المساعدات.. بينما أن تصوير الإعلام للمأساة التي تتكشف في قطاع غزة المدمر، يُشوّه سمعة إسرائيل.. فحتى عندما نادرًا ما تُغطي القنوات التلفزيونية معاناة سكان غزة، يبقى عنوانها الرئيسي: (الضغط الدولي على إسرائيل يتزايد).. الإسرائيليون الذين يعتبرون أنفسهم إنسانيين، ما زالوا في جهلٍ كبير، بينما القوميون ببساطة لا يكترثون.. معاناة الآخر، وخصوصًا العربي، تُرضيهم.. تُبدد إنجازات المؤسسة الدفاعية ـ في رأي فيرتر ـ بشكل ممنهج من قِبل أكثر حكومة غير كفؤة وتدميرًا شهدتها إسرائيل على الإطلاق.. ومع قيام نتنياهو بتوجيه الجيش الإسرائيلي من الطابق الرابع عشر في (مجمع كيريا الدفاعي) في تل أبيب، فربما يشعر وكأنه يدير مسابقة غناء!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.