صراع التغلب على المجاعة في غزة: حكايات الإصرار على البقاء وسط الخراب

صراع التغلب على المجاعة في غزة: حكايات الإصرار على البقاء وسط الخراب

يعد الحصار الحالي الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، هو الأطول منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، إذ لم يدخل أي غذاء أو إمدادات إنسانية إلى القطاع غزة منذ الثاني من مارس الماضي.. إلا أنه في ليلة الأحد، وبعد ثمانية وسبعين يومًا من الحصار المفروض على المساعدات، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل سوف تسمح بدخول (كمية أساسية) من الغذاء إلى القطاع، وهو القرار الذي قوبل بردود فعل عنيفة على الفور من جانب الوزراء في حكومته، فضلًا عن العديد من أعضاء المعارضة الإسرائيلية، الذين يرون في تدفق الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية، علامة على أن نتنياهو لا يُظهر (أي مقاومة ضد الضغوط الدولية)!!.كان غالبية سكان غزة يعتمدون على المواد الغذائية، التي دخلت خلال وقف إطلاق النار القصير في نوفمبر 2024، لكن هذه الإمدادات نفدت منذ زمن طويل.. ومع استحالة الحصول على الغذاء تقريبًا، تعيش العائلات الفلسطينية على وجبة واحدة فقط يوميًا.. هذا إن تناولت الطعام أصلًا.. اختفت مواد غذائية أساسية، كالدقيق والحليب والبيض واللحوم من الأسواق.. ومع بدء وصول المساعدات، يبقى من غير الواضح كيفية توزيعها، وكم من الوقت سيستغرق وصولها إلى المحتاجين.. وفي ظل عدم القدرة على الحصول على غاز الطهي، لجأ السكان إلى إشعال النيران بالخشب وحرق القمامة أو البلاستيك، لإعداد الأرز والفاصوليا والأطعمة المعلبة.. في بعض الحالات، بدأ الناس يحرقون مجموعات الكتب الشخصية والمكتبات المنزلية للحصول على الحطب؛ كتب أحد سكان غزة على فيسبوك، أن صاحب مخبز عرض شراء ما تبقى من مكتبته لمجرد إبقاء فرنه يعمل، (أتمنى لو مت قبل هذا).. ويلجأ البعض إلى اصطياد السلاحف والبحث عن نباتات الخطمي وأوراق الفراولة لطبخها.في أحاديث مع صحيفة (هآرتس)، وهي صحيفة إسرائيلية باللغة العبرية تصدر يوميًا في تل أبيب، وتوزع في جميع أنحاء إسرائيل، باعتبارها واحدة من أهم الصحف الإسرائيلية، وتُصدر ترجمة إلى اللغة الإنكليزية لمختارات من موضوعاتها بالتعاون مع الصحيفة الأمريكية (هيرالد تريبيون)، وتنتمي إلى الخط السياسي الإسرائيلي اليساري، ومن توجهاتها الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما دافعت عن اتفاقية أوسلو ـ يصف ثلاثة فلسطينيون في غزة، امرأتان ورجل ـ وصف مدعوم بالصور ومقاطع الفيديو تعكس حقيقة الواقع المؤلم ـ المحنة اليومية التي يواجهونها في البحث عن الطعام، والبقاء على قيد الحياة خلال رحلة العودة إلى الوطن، وإعداد وجبة الطعام، في ظل ظروف تُحوِّل الحق الأساسي والضرورة إلى صراع مرهق من أجل البقاء!!.●●●تحكي إسراء، البالغة من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، والنازحة إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، قصة يومها الذي يبدأ عند الخامسة صباحًا.. تقول: لا يزال الظلام دامسًا، والهواء البارد يداعب يدي وأنا أجلس على الحصيرة التي ننام عليها جميعًا.. أطفالي الثلاثة ـ بنتان وصبي ـ لا يزالون ملفوفين ببطانيات رقيقة.. بالكاد نمت.. حتى في الليالي الهادئة، حين لا تهز القنابل الأرض وتستقر السماء، ما إن أغمض عيني حتى أرى الغارات الجوية.. تلك الخطوط البيضاء الحادة في سماء غزة.. لقد حُفرت في ذاكرتي.. استيقظتُ اليوم كعادتي في الخامسة صباحًا، تمامًا كآلة.. وكالعادة، حاولتُ المغادرة باكرًا قبل اصطفاف الطوابير، وقبل أن تضجّ الشوارع بالجوع.. أسير في دروب مخيم النصيرات المُدمّرة.. يستغرقني الوصول إلى بقعة المياه المالحة عشر دقائق، وعشر دقائق أخرى أعود فيها حاملة حاويات ثقيلة.. ساقاي تؤلماني، لكنني لا أستطيع التوقف.عندما عدتُ، كان الأطفال لا يزالون نائمين.. سكبتُ الماء المالح الذي تمكنتُ من إحضاره في وعاء بلاستيكي، وبدأتُ بمسح الأغطية البلاستيكية التي تُبطّن أرضية الخيمة.. لسع الماء أصابعي المتشققة، لكن هذا أصبح جزءًا من روتيني الآن.. عند الساعة السادسة والربع، وبعد انتهاء التنظيف، مشيت لبضع دقائق لجلب مياه الشرب من نقطة التوزيع القريبة.. كان الطابور طويلًا بالفعل عندما وصلت.. نساء مثلي، متعبات، جائعات، قلقات، جميعهن يحملن زجاجات وأباريق فارغة.. أقف، أنقل وزن جسدي من قدم إلى أخرى، أنتظر، وأفكر.. أحيانًا، عندما يحالفنا الحظ، يستقر خزان مياه متنقل أسفل منزلنا مباشرةً ويوزع مياه الشرب.. لكن الزحام شديد، لدرجة أنني لا أستطيع المخاطرة بالذهاب.. يذهب زوجي بدلًا مني، وحتى مع ذلك يستغرق ساعات طويلة ليعود ببضع زجاجات.. في هذه اللحظات الهادئة، تتسلل ذكرياتي.. أفكر في مصر، حيث وُلدتُ قبل ثلاثة وثلاثون عامًا.. كنتُ ابنةً لأبوين فلسطينيين في بلدٍ مجاور لنا.. أتذكر يوم عودتي إلى غزة عام 2005، فتاةً في الرابعة عشرة من عمرها تمشي في شوارع مدينة غزة، والدموع تنهمر على خدي لأسبابٍ لا أستطيع تفسيرها.. كانت تلك أول مرة أشعر فيها بالانتماء إلى مكانٍ ما.عند الثامنة صباحًا، عدتُ أخيرًا إلى الخيمة، وأنا أسحب حاويات الماء.. ذراعاي تؤلماني، وظهري مشدود.. يساعد زوجي الأطفال أحيانًا في تحضير ما يُقارب وجبة الإفطار، بضع فتات خبز منقوعة في الشاي، إن حالفنا الحظ، أو شريحتان من الطماطم وفلفل حار واحد.. أفتقد أيام زوجي عندما كان يعمل في البقالة.. لم يكن عملًا يُذكر، لكنه كان يمنحنا البقاء، والقدرة على التنبؤ، والكرامة.. انتهى كل ذلك الآن.. منذ أن فررنا من مدينة غزة، بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أمر إخلاء، أصبحت حياتنا في هذه الخيمة بمخيم النصيرات للاجئين مجرد مأوى.. لا أتمنى هذا لأسوأ أعدائي.الساعة العاشرة صباحًا.. حاولتُ تحضير وجبة واحدة لهذا اليوم.. لم يكن هناك غاز، فاستخدمتُ الحطب الذي جمعناه بالأمس.. لا يكفي أبدًا.. تحترق حزمة كاملة من الحطب قبل أن تغلي المكرونة.. أحيانًا نأكل العدس، وأحيانًا مكرونة سباجيتي مسلوقة.. طبق واحد، يُقسّم بين خمسة أشخاص.. وإن حالفني الحظ، يكون هناك ملح.. لم نعد نأكل لنشعر بالشبع، بل لنتجنب الانهيار.الواحدة والنصف ظهرًا.. كانت الشمس ساطعة.. جلستُ أمام الخيمة، أُهوي على النيران الخافتة تحت قدرٍ مُسودّ.. أتذكر حروبًا أخرى عشتُها جميعًا.. حرب عام ٢٠٠٨.. كنتُ في الثامنة عشرة من عمري فقط، طالبة جديدة في جامعة الأقصى، أدرس تكنولوجيا المعلومات، مُفعمًة بالأحلام.. ثم أضاءت السماء بالقنابل.. رأيتُ أشلاءً في الشارع.. هذا النوع من الخوف لا يُفارقك أبدًا.. أتذكر ركضي نحو الحدود بعد انتهاء الرحلة.. وقفتُ هناك وحدي.عند الثالثة مساءً، سألني ابني إن كان بإمكاننا تناول الفلافل مجددًا، وكأننا (أقمنا وليمة).. كان يتحدث عن أسبوع مضى، عندما تمكنا بطريقة ما من جمع ما يكفي من المال.. قايضتُ الدقيق بالسكر، وحضّرتُ الشاي.. كان الأطفال يضحكون، كدتُ أنسى أننا في حرب.. الفلافل والشاي، أصبحت هذه من الكماليات الآن، محجوزة لمن لا يزال لديهم مدخرات أو أقارب في الخارج.. حاولتُ إطلاق حملة صغيرة عبر الإنترنت، طالبة المساعدة.. تبرع البعض، لكن معظمهم تجاهلها.. لا ألومهم، لقد سئم العالم من سماع أخبار غزة.بحلول الخامسة والنصف مساءً، كانت رائحة الخيمة كدخان كثيف ومُرّ، من نيران الحطب التي أشعلها الناس في الخارج، ممزوجة برائحة لاذعة لشيء محترق قريب.. كانت الوجبة جاهزة، مكرونة سباجيتي مرة أخرى.. قسمتها إلى خمسة أوعية صغيرة، حريصة على أن تبدو كل حصة ممتلئة.. رفعت ابنتي الصغرى، مريم، رأسها وسألت بهدوء، (هل سيكون هناك المزيد؟).. كانت عيناها واسعتين، لا تطلبان شيئًا، بل تأملان فقط.. قبّلتُ جبينها وهمستُ، (غدًا يا حبيبتي).. خرجت الكلمات بسهولة، لكن شيئًا ما في صدري ضاق.. لم أكن أعرف إن كنت أكذب، أم أحاول تصديق الأمر فحسب.، وبينما كنت أشاهدها وهي تأكل، تذكرت وقف إطلاق النار الأخير: كيف كانت الأسواق مليئة بالخضراوات والفواكه، وكيف كنت أحمل إلى المنزل أكياسًا مليئة بالطماطم والخيار، وحتى الفراولة للأطفال.. والآن، ألجأ أحيانًا إلى استخدام أكياس من الدقيق الفاسد، مليئة بالعث، وأقوم بتنظيفها، فقط لأصنع شيئًا صالحًا للأكل.يحل الليل باكرًا هنا.. في السابعة مساءً، يتسلل البرد.. الأطفال مُلتفّون تحت بطانية واحدة.. يجلس بلال بجانبي صامتًا، أشعر بقلقه دون أن ينطق بكلمة.. أفكر في كل ما فقدته، دراستي، مدينتي، إحساسي بذاتي.. لكن لا يزال لديّ أطفالي، وحبي لهم هو الدفء الوحيد الذي أستطيع الاعتماد عليه الآن.. أكثر ما يُخيفني هو الغد.. أن يكون كأيامي السابقة، أيامًا قضيتها أبحث عن الطعام، أسير لساعات بين الأنقاض والغبار، لأعود خالية الوفاض، أو شبه خالية الوفاض.. مثل ذلك المساء، تجولت حتى غروب الشمس، وعدت بعلبة حمص طحينة واحدة وستة فصوص ثوم، ثمنها ثمانية عشر شيكلًا، أي ما يقارب خمسة دولارات.. أهمس لنفسي قبل أن أغلق هذا الدفتر: إذا متنا، فلنموت على الأقل ممتلئين.●●●تجتمع سارة ـ سبعة وعشرون عامًا ـ النازحة إلى جنوب غزة، وعائلتها المكونة من إثنى عشر شخصًا ـ بما في ذلك والداها وإخوتها وأطفالهم ـ في مدرسة تابعة للأونروا.. تعيش هذه العائلة، وأصغرها طفل يبلغ من العمر عامًا ونصف، داخل فصل دراسي مع عائلة أخرى مكونة من ثمانية أفراد.. بعد تدمير منزل عائلة سارة في بداية الحرب، اضطرت العائلة إلى النزوح من شمال غزة إلى الجنوب، قبل أن تعود شمالًا خلال وقف إطلاق النار.تروى تفاصيل يوم في حياتها.. تقول، في الساعة الثامنة صباحًا، أُوكِلَ إلى أخي البالغ من العمر ستة عشر عامًا، وأخي البالغ من العمر اثني عشر عامًا، مهمة تأمين الطعام اللازم لبقاء الأسرة من مطبخ مجتمعي في المدرسة.. يندسّان بين عشرات الأطفال والبالغين، ويشقّان طريقهما للوصول إلى أواني الطعام.. يعود الفتى ذو الستة عشر عامًا أحيانًا خجولًا، لأنه لم يقم بمسئوليته.. ليس لعدم قدرته، بل لعدم وجود طعام كافٍ للجميع.بعد وفاة ابنه الأكبر، كان والدي، البالغ من العمر خمسة وستين عامًا، غارقًا في الحزن، لدرجة أنه لم يستطع مساعدة الأسرة في مهام الحياة اليومية.. مؤخرًا، استأنف مسؤئلياته.. كان يخجل من الذهاب إلى مطبخ الجمعية وخزانات المياه، لكنه لم يستسلم، رغم الألم وشعوره بالضعف من الجوع.. أنا فخورة به.. اليوم، عند العاشرة صباحًا، عاد والدي بالطعام: أرز وعدس، كما في أيام كثيرة سابقة.. لم يتمكن الأولاد من الحصول على أيٍّ منهما.. اضطر عمال الإغاثة إلى تقليص إنتاجهم، فبدلًا من طبخ أربعة أوانٍ كبيرة لمئات النازحين في المدرسة، أصبحوا يطبخون قدرين يوميًا.. لا تُملأ الأواني تمامًا؛ بالكاد تغطي قاعها.. لهذا السبب نحتفظ ببعض الأرز للطوارئ، في حال لم نحصل على شيء.. أتذكر آخر وجبة حقيقية تناولتها، كانت في رمضان قبل أكثر من عام: أرز وسلطة.. كنا لا نزال في الجنوب.الساعة الحادية عشر صباحًا.. علينا إشعال النار لطهي الأرز الذي نحتفظ به للطوارئ.. هنا تبدأ مهمتي.. أولًا، أشعل إسفنجة أو قطعة قماش، ثم أضيف بعض الحطب.. ولإبقاء النار مشتعلة، أضيف خرطوم مياه بلاستيكي.. أنا فخورة بنفسي.. كنت مصففة شعر قبل الحرب، والآن أصبحتُ شخصًا يفعل أشياءً لم تتخيل يومًا أنها ستفعلها، مثل إشعال النار.. وبحلول الثانية عشر ظهرًا، أنا أيضًا مسئولة عن نقل المياه إلى الطابق الثاني.. المياه لا تتدفق عبر الأنابيب، وليست متوفرة دائمًا.. إذا وصلت عربة مع خزان المياه، فهذا يعني وجود تبرع أجنبي.. كانت تأتي مرتين يوميًا، لكن وصولها أصبح أقل فأقل.. اليوم، لم نحصل إلا على دلوين من الماء، وهو لا يكفي لأي شيء.. سنستخدمه للشرب، ولكن لن نغسل الملابس.. كلما أمكن، سنعيد تدوير المياه المستعملة لاستخدامها في دورات المياه وغسل الأطباق.عند الثانية ظهرًا، كان هناك غارة إسرائيلية ليست بعيدة عنا، لكن لا تقلقوا نحن بخير.. لم أحظَ بلحظة سعادة واحدة اليوم.. تلقيتُ خبرًا سيئًا عن ابن أخي الذي أُصيبَ قبل قليلٍ في ضربةٍ جوية.. فقدَ القدرةَ على الحركةِ والكلام.. وفي السادسة مساءً، أعتني بابني أخي اللذين يبلغان من العمر عامًا ونصفًا وثلاث سنوات.. فقدا والدتهما في الحرب الدائرة، وأُخرجا من تحت الأنقاض.. ليس لديّ ما أقدمه لهما، لا بسكويت ولا شوكولاتة.. لا نملك ثمن أي حلويات، حتى لو فُتحت المعابر.. لقد حُذفت كلمة (اشترِ) من قاموسنا اليومي.. بدلًا من ذلك، يصنع بعض الناس هنا كعكات من قمح فاسد مليء بالديدان، وقليل السكر.. يحصل كل طفل على كعكة واحدة فقط.. وفي المساء، أحد أبناء أخي يبكي بحرقة من الجوع.. كل ما أستطيع فعله هو إعطائه بعض الأرز، لكنه يريد خبزًا.. أملنا الوحيد هو أن نحصل على طرد مساعدة من إحدى منظمات الإغاثة قريبًا.●●●لا تختلف ظروف ضاهر ـ ثلاثة وثلاثون عامًا ـ وهو النازح إلى خانيونس جنوب قطاع غزة، عن ظروف سابقتيه.. يحكي أنه، عند السادسة صباحًا، تكون الشوارع هادئة في هذه الساعة، لكن الأسواق مكتظة أصلًا.. أمشي لساعات، باحثًا عن أي شيء صالح للأكل، خضراوات، حبوب، أي شيء يُبقينا على قيد الحياة.. الأسعار باهظة.. في معظم الأيام، أغادر دون أن أحصل على شيء.. اليوم، بعد ثلاث ساعات من المساومة والتوسل، تمكنت من شراء كيلو جرام من الباذنجان نصف الفاسد، وكيلو جرام من الكوسا مقابل مائة شيكل (حوالي 28 دولارًا).. أثناء سيري، أتذكر الماضي، عندما كانت الأسواق تعجّ بالبضائع، عندما كنتُ أستطيع إعالة أسرتي دون خجل.. الآن، حتى هذا الطعام الفاسد يُشعرني بالنصر.عند التاسعة صباحًا، يلاحقني صوت أزيز الطائرة بدون طيار، وأنا أعود إلى الخيمة التي نعتبرها الآن منزلنا.. هذا الصوت، المستمر والمخيف، يُذكرني بعجزنا.. أتذكر يوم فرارنا من منزلنا في الشمال، ظنًّا منا أن الشجاعية ـ شرق مدينة غزة ـ أكثر أمانًا.. ثم انهالت القنابل.. زوجتي خلود، التي كانت حاملًا في شهرها السادس آنذاك، لم ترغب في المغادرة أصلًا.. كانت مُحقة.. أصابتها الضربة، واختطفت جنيننا، ولم تترك لنا سوى الحزن.. كانت الساعة العاشرة صباحًا، أعطيتُ الخضراوات لخلود، التي بالكاد تتفاعل معنا.. كانت منهكة، مثلنا جميعًا.. أخذتْ أوعية الماء الفارغة وغادرت، وانضمت إلى طابور النساء الأقصر.. تشبث بي ابننا يوسف، ذو الأربع سنوات، بجسده النحيل.. وفي الحادية عشرة صباحًا، أقف في طابور الحمام، واحد من عشرات الطوابير التي يتشاركها المئات.. ينتظر الأطفال حفاة، أقدامهم متشققة.. قلبي يرتجف؛ قد يكون ابني بينهم قريبًا.. إذا سمحتُ لطفلٍ واحدٍ بالتقدم، فسيتوقع الآخرون الشيء نفسه.. لذا ألتزم الصمت، وشعور الذنب يثقل صدري.. (لا أريد هذا لابني)، أفكر وأنا أشاهد صبيًا يرتجف في الطابور.. لا أريده أن يكبر وهو ينتظر الطعام أو الماء أو المرحاض.. لا أريد أن ينظر إليه الآخرون بشفقة كما أنظر إليهم الآن.الساعة الرابعة مساءً.. لا تزال الشمس حارقة في هذا الوقت.. خلود تركع، تُرتب الحطب.. أتحرك للمساعدة، لكنها تهز رأسها.. أشعلت إسفنجة أولًا، فاختلطت رائحة البلاستيك المحترق النفاذة بالهواء الجاف.. وبينما تشتعل النيران في الحطب، تضع خلود رشة ملح على الخضراوات المقطعة التي اشتريتها لها قبل أيام.. أفكر في الحبوب الفاسدة التي استبدلتها بكيس الملح هذا، آملًا في شيء أفضل من أوراق الخطمي الذابلة والخضراوات المتعفنة.. ننجو من خلال هذه التبادلات الصغيرة.. بالأمس، ناضلنا من أجل السكر.. غدًا، سنقايضه بالخبز.. لا شيء يدوم.بدأت الشمس تغرب، عند السادسة مساءً.. لكن الطائرات المسيرة لا تُغادر.. منذ أن فقدت خلود هاتفها أثناء فرارنا من الغارات الجوية، لا أستطيع شراء هاتف جديد لها.. أعطيتها هاتفي لتتابع الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي.. تراسلها عائلتها للاطمئنان عليها وعلى أحوالنا، فأمنحها مساحة للهروب، ولو للحظة وجيزة.. أمسكت بيد يوسف بينما نتجول في المخيم، وعرضت عليه المساعدة في نصب الخيام، والتحقق مما يمكننا تبادله أو بيعه؛ حاولت أن أفعل أي شيء لتأمين وجبة الغد.●●●(منذ أكثر من شهر وأنا أنام جائعًا كل ليلة)، يقول أحمد، (غذاؤنا محدود للغاية.. نأكل في الغالب العدس والبقوليات الأخرى، أيًا كان ما تبقى لدينا.. قلصنا طعامنا إلى وجبة واحدة يوميًا، لأن الدقيق على وشك النفاد.. اتفقنا كعائلة: وجبة واحدة يوميًا، لا خبز.. إذا وجدنا مكرونة، نحاول تخزينها.. ومثل أي شخص آخر، نعتمد على شاحنات المياه للحصول على مياه الشرب.. نقف في طوابير كل يوم، على أمل ملء برميل صغير.. في بعض الأيام، لا ننجح؛ إما أن الشاحنة لا تأتي أو أن الطابور طويل جدًا.. في تلك الأيام، نشرب مياهًا غير مُعالجة).. يصادف اليوم مرور شهرين ونصف على إغلاق إسرائيل الكامل للمعابر الحدودية المؤدية إلى قطاع غزة، مانعةً بذلك دخول أي مواد غذائية أو مساعدات إلى القطاع.. وقد تناقصت إمدادات الغذاء في غزة، وارتفعت الأسعار بشكل حاد، وتزايدت التقارير عن المجاعة والأمراض المرتبطة بسوء التغذية.نذهب إلى السوق يوميًا تقريبًا، على أمل العثور على ما يُناسب ما نملكه.. تتوفر بعض الخضراوات، لكنها باهظة الثمن، تُزرع في فراغات المنازل وتُباع بالمقايضة، لتتمكن العائلات من الحصول على الضروريات الأخرى.. نشتري بصلة واحدة كل مرة، ونحاول أن نجعلها تكفي لعدة وجبات فقط لإضافة بعض النكهة.. يُطهى الطعام على نار مفتوحة باستخدام الخشب والبلاستيك المُذاب.. نشتري البلاستيك بالكيلو من أشخاص يجمعون البراميل القديمة، ويقطعونها إلى قطع صغيرة، ويبيعونها كوقود.. هذا ما نستنشقه يوميًا أثناء تحضير الطعام.. عائلات كثيرة لا تستطيع حتى تحمل تكلفة ذلك، فهم يعيشون على المساعدات، التي غالبًا ما تكون رديئة الجودة وتفتقر إلى القيمة الغذائية.وصل سعر الدقيق إلى خمسة وأربعين شيكلًا للكيلو جرام، (معظم الناس لا يستطيعون شراء كيلو جرام واحد).. أما المكرونة، فسعرها أرخص، إذ يبلغ إثنين وعشرين شيكلًا للكيلو جرام، (نصحتني عمتي بشراء المكرونة وطحنها لصنع الخبز.. أخبرتنا أنها جربتها ووجدت أنها ناجحة.. حاليًا، لا يزال لدينا القليل من الدقيق في المنزل، اشتريناه عند إعلان انتهاء وقف إطلاق النار.. ربما مع بداية الأسبوع المقبل، سنبدأ بتناول المكرونة بدلًا منها).انهار النظام المالي في غزة بالفعل، بسبب نقص السيولة النقدية وتدهور قيمة الأوراق النقدية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يقارب 100%.. يقول أحمد إن عائلته حاولت مؤخرًا سحب بعض النقود من البنك، (اضطررنا لدفع خمسمائة شيكل للصراف لسحب ألف شيكل فقط.. أي ما يعادل 33% رسومًا!.. كانت هذه في الواقع أقل رسوم وجدناها في ذلك اليوم).. بالإضافة إلى صعوبة الحصول على الطعام والماء، يعاني سكان غزة أيضًا من مشاكل صحية حادة، (تتدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع وتصل إلى الخيام كالأنهار.. لا يمكنك المشي في أي مكان دون أن تطأه.. البعوض والجرذان في كل مكان.. ومع ضعف أجهزتنا المناعية، حتى لدغة حشرة صغيرة يمكن أن تتحول إلى عدوى خطيرة).. منذ أكثر من شهر، أنام جائعًا كل ليلة.. أينما ذهبت، تسمع الناس يتحدثون عن الخبز وحنينهم إلى أيام كان كل شيء فيها متاحًا.. أصبح فقدان الوزن أمرًا شائعًا.. لقد خسرتُ الكثير من الوزن خلال الشهر الماضي.. وجبة واحدة يوميًا لا تمدني بالطاقة اللازمة لإكمال يومي.. بحلول نهاية اليوم، أعود إلى المنزل أشعر بجوع شديد، لكنني أتردد في فتح خزينة الطعام، لأنني أعلم أنها فارغة، أو إذا كان فيها أي شيء، أشعر بالخجل من أكله.الجزء الأكثر إيلامًا!!، أنه لا يبدو أن أيًا مما نمر به يؤثر على مفاوضات الرهائن أو أي شيء آخر.. الجميع يعلم هذا.. ولهذا السبب تتراجع الروح المعنوية.. أصبح الناس يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي لا يستهدف حماس، بل يستهدفنا نحن المدنيين.. لو كان الهدف حقًا تفكيك حماس، لكان من الممكن استخدام استراتيجيات أخرى، استراتيجيات لا تتضمن تجويع أو قتل أو تهجير شعب بأكمله، (لقد فقدت الحياة هنا معناها.. لا أعتقد أن لغزة مستقبل بعد الآن.. لقد ضاعت المدينة.. حتى لو انتهت الحرب اليوم، وهو أمر مستبعد، فلن يتغير الكثير.. غزة غير صالحة للعيش).نحن أيضًا رهائن.. ليس فقط للحرب، بل لأصحاب السلطة هنا.. نحن رهائن حماس.. لن يستمعوا إلينا.. لن يهتموا لأمرنا.. ألمنا لا يصل إليهم، وبقائنا لا يعنيهم.. لا نستطيع الفرار من الحرب.. لا نستطيع حماية أنفسنا منها.. الفرق بيننا وبين الرهائن، هو أن لديهم من يتحدث نيابةً عنهم، من يهتم لأمرهم، ويقاتل من أجلهم.. أما نحن، فليس لدينا أحد.. ينظر إلينا المجتمع الدولي كإرهابيين، بينما لا يكترثون حتى للاستماع إلى أهل غزة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.