فواصل مظلمة

فواصل مظلمة

كعادته الجديدة يجفف شعرى، لكن يديه اليوم تمتدان إلى عنقى تتحسسان العروق فيغلبنى الضحك، وحينما تصل يداه المتسحبتان إلى أذنى وتحاصران وجهى، أتخلص منهما، وأجرى من أمامه بين سذاجة ضحكاتى وأنفاسى اللاهثة.تغيرت معاملته! أحيانًا يطلب منى أن أجلس قبالته، فأستكين فى الكرسى الذى يشير إليه، يمتد الصمت وهو محدق فى وجهى كأنه يبحث عن شىء ضاع منه.لعلها صورتها التى يخفيها فى محفظته. يحبها بينما يقاطعها حتى بعد الموت، فلا يقرأ عليها الفاتحة، لا ينسى أنها تركته طفلًا يمص أصابعه إلى فراش رجل آخر بمجرد وفاة جدى وقبل أن تخلع السواد، ولا يغفر لها أنها ماتت قبل أن يصبح رجلًا يدافع عن حقه فيها.وأحيانًا أكثر يحذرنى من اللعب مع أبناء الجيران، ويهدد بكسر رقبتى إذا رآنى أتحدث مع ولد منهم، ولم أكن أحتاج لتحذيره، فقبل أن يطل ظله على الشارع كانت سلسلة اللعب تنقص حلقة، مرة واحدة أخذنى على غرة وفوجئت به فوق رأسى يجذبنى من شعرى، ويضربنى، وأمى تحاول تهدئته وإبعاده عنى، وبعد إطلاق سراحى، أخذتنى فى حضنها وعاتبتنى:- مش قلتلك ما تتأخريش أنت خلاص كبرت.وتعود تؤكد أننى أكاد أكون قطعة من ملامحها.. جدتى التى لم تصبح يومًا عجوزًا. لذا لم تكن تستغنى أبدًا عن رجالها عدا أبى الذى كان فقط ابنها يختلس أمومتها، ثم تعود للأصل امرأة الغريب.يزداد تحديقه، وتتلاشى بكارة تفاصيلى، وأصبح امرأة مصبوغة بقوس قزح تتعرى فى أيدى الرجال، تختلط فى عينيه ملامحنا، ولا أعرف حين نتقابل مَن يرى؟ وأطيل ضفيرتى لعله يراها، لكن الشعر النارى دائمًا ما يشتعل فى عينيه، ويكثر الرجال الذين تتعرى بين أيديهم.ومنذ أصبحت صورتها تتلبسه حين ينظر إلىّ، وأنا لا أستطيع النوم وأى جزء من جسدى مكشوف، حتى إن كنت أرتدى بيجامة وبنطلونًا فى عز الحر فلا بد من شىء يغطينى وإن كانت ملاية سرير، حتى إننى أبدو وأنا نائمة كمومياء ملفوفة بالكتان ومستغرقة فى الموت. نائمة ولكن حواسى كلها مستيقظة تحوم حولى كلعنة الفراعنة تتربص بمن يفتح باب المقبرة، وبمجرد الإحساس بتغيير أو خلخلة فى هواء الغرفة أفتح عينى وأكشف الغطاء عن وجهى كعسكرى الدورية فى الحكايات القديمة يعلن عن يقظته بصيحة:- مين هناك؟تزداد الليالى التى أكشف الغطاء فيها عن وجهى وأسأل هل تريد شيئًا؟ وأستطرد واضعة لنفسى إجابة مطمئنة «الكبريت» موجود على المكتب، فقد تعودت أن أحتفظ بعلبة الكبريت على مكتبى حتى إذا انقطعت الكهرباء وجدت مصدرًا للضوء. تتكرر المرات، وفى كل مرة أجد الكبريت على مكتبى كما هو لم يتحرك من مكانه.زفرات التنين فى بلاد الشرق البعيدة تصيب رأسى، فتجتاحنى الحمى كإعصار لا أعرف نهايته. كانت البداية صداعًا ورعدة تسرى فى بدنى، وتتصاعد الحرارة من رأسى فتلطفها كمادات الماء البارد، وإن كانت لا تسكت الطنين الذى يملأ أذنى، أو توقف الشريط الذى يحمل ذكرياتى وأوهامى وتمنعه من الدوران أمام بؤرة الرؤية فى عقلى.عائدة من المدرسة، أسرع فى صعود السلم إلى شقتنا بالدور الأخير، يصطدم بى ابن الجيران الهابط مسرعًا هو الآخر، ومتعمدًا يلمس ذراعه صدرى الذى يسبق دائمًا قفزاتى، يعتذر بعينين مكشوفتين فلا ألتفت له، وأسب وقاحته فى سرى، قبل أن أصل للدرج الأخير يصيبنى بعض ألفاظ شجارهما ويطيش البعض الآخر بعيدًا، أقترب من باب الشقة، وقبل أن أضغط على الجرس أسمعها تتشاجر معه بعتاب وتوبيخ:- ولا واحدة سِلمت من معاكستك حتى بنات الجيران.. يا راجل عيب دى بنتك بقت عروسة.- عيب إيه؟ أنت اللى راحت عليكِ.وما إن أدخل الشقة حتى يخيم السكون بعد قبلة أمى، واستقبال أبى الحار الذى تسميه أمى دلعًا زائدًا، ما عدا ذلك، صمت ثقيل، وتحتبس الأنفاس بين امرأة مستكينة كفلاحة قادمة للتو من قريتها فى جلبابها الأسود الذى تفوح منه رائحة الأرض، ورجل لا يكف عن التحديق والبحث، تزداد سخونة رأسى وكأنها صاروخ لا يعترف بقوانين الجاذبية، وما زالت أمى تضع الكمادات بيد وبالأخرى تدلك ساقىَّ.. لا أشعر بهما من الثقل، بل بمجرد نبضهما الذى يوحى لى بألم لا أستطيع إمساكه.يطول الليل وما زالت أمى بجوارى لم يغمض لها جفن وهو بجوارها، ومن بين خيوط اللهب التى تتجمع بعينى ألمحه يربت على كتفها، يطلب منها أن تذهب لتستريح ويتولى هو وضع الكمادات وتدليك ساقىَّ، وحين تهز رأسها بالرفض يصر على أن تستريح، فأربت على يدها أن تذهب وتطمئن وإن كان القلق هو ما أطمئن إليه.تمر الدقائق رتيبة بين كمادة وأخرى، فتغفو جمرتا اللهب، وبين دبيب الألم أشعر بالحمى، ليست فى ساقىَّ ولكن فى اليدين اللتين تدلكهما.تعاودنى رعدة جسدى وتتصاعد من رأسى أبخرة تشكل صورًا من خيالات الأفلام التى أشاهدها.. كلاب تنشب مخالبها فى لحمى.. وذئب يطبق على عنقى ويسحب روحى، وتأتى صاحبة الشعر النارى- فى عينيها بريق نداء وإغواء- أخاف منها. أرغب فى أن أكون هى.. وابن الجيران يتلصص النظر إلى ساقى وأنا أنزل السلم وأصعده.ترتفع اليد من ساقى، تتجاوز الركبة، تزحف أكثر، تتسلل كأفعى فحيحها المحموم كالجحيم.. متربصة كالموت.. يجف حلقى كأرض شراقى.. أحاول أن أفتح عينى، لا أفرق بين حريق رأسى وكوابيسه، ترتسم صورته على الشبكة الحمراء وقد تفصد عرقًا من سخونته لا من الحمى التى تأكلنى.. أستجمع كل قواى وأنظر فى عينيه، ويده متصلبة على فخذى العارى، أزيح يده فتتحول الخصلات المتطايرة إلى ضفائر طويلة، وتتشنج يده فأتحرر منها، ويتجمع صوتى ليسأله هل تريد الكبريت..؟ ودون أن أرشده إلى مكانه كما اعتدت يعطينى ظهره وقد نسى أن يغطينى.وأنا عائدة من المدرسة أسرع فى صعود السلم إلى شقتنا بالدور الأخير يصطدم بى ابن الجيران مسرعًا هو الآخر، متعمدًا أن تلمس ذراعه صدرى الذى يسبق دائمًا قفزاتى، وقبل أن يعتذر بعينين مكشوفتين أفتح له أزرار بلوزتى ليتلقانى بين ذراعيه.