فيروز… الصوت الذي يعكس هوية الوطن

فيروز… الصوت الذي يعكس هوية الوطن

في زمنٍ تتبدّل فيه الوجوه واللهجات، وتبهت فيه الألوان، تبقى فيروز، كالأرز، لا تهزّها ريح. هي ليست مجرّد صوت يغني، بل وطن بكامله يُغنّى. عندما تُغنّي فيروز، يصبح الصباح أكثر نقاءً، ويصير الحنين أكثر صدقًا، ويغدو الوطن أقرب من أيّ وقت مضى.وُلدت نهاد حداد في بيروت، لكنها لم تنتمِ إلى مدينة أو طائفة أو طبقة. اختارت أن تنتمي إلى الناس جميعًا، فغنّت للحبّ، وللأمهات، وللأوطان الموجوعة، وللأحلام المؤجّلة، حتى أصبح صوتها لغةً ثانية لكل عربيّ.في الخمسينات، كانت الفتاة الخجولة تطرق أبواب الإذاعة، لا تحمل سوى صوت نقيّ وحلم كبير. التقت بالأخوين رحباني، فكانت ولادة أسطورة لن تتكرّر. تحوّلت الأغنية اللبنانية على يديهم من فلكلور محليّ إلى فنّ عالميّ، وكانت فيروز هي الجسر، الموهبة التي حملت القصيدة إلى الضمير العربيّ.هي السيّدة التي غنّت للحبّ حين كان الحبّ نادرًا، وللقدس حين كانت القدس جرحًا نازفًا، ولبيروت حين كانت المدينة تتأرجح بين الرماد والأمل. لم تهادن، لم تصرخ، بل اختارت النقاء أسلوبًا، والسموّ سلاحًا، فصارت أكبر من السياسة، وأعمق من الفنّ، وأكثر صدقًا من الذاكرة.مع كل صباح، حين يعلو صوتها من الراديوات، نشعر بأن العالم ما زال بخير. أن هناك شرفة مفتوحة في جبل، وسيدة تعدّ القهوة، وطفلًا يتهيّأ للمدرسة، ووردةً تنفتح على مهل. هذه التفاصيل التي نحيا بها، فيروز كانت تغنّيها قبل أن نعيشها.في صمتها، هي أكثر بلاغة من كثيرين. في غيابها، أكثر حضورًا من الجميع. لم تلهث خلف الضوء، بل صار الضوء يبحث عنها. وكلّما غابت عن المسرح، ازدادت حضورًا في القلوب. هي فيروز… اختصار الحنين، وعنوان الكبرياء، وصوت من لا صوت له.لكن الحديث عن فيروز لا يكتمل دون الغوص في تحوّلاتها. بعد الأخوين رحباني، جاءت تجربتها مع زياد الرحباني، نجلها، الذي كسر القوالب الكلاسيكية، وفتح أمام صوتها دروبًا أكثر جرأة، وأكثر صراحة. غنّت بلسان الشارع، واختبرت الوجع بطريقة مختلفة، دون أن تفقد وقارها أو مهابتها. فيروز مع زياد ليست هي نفسها مع الرحابنة، لكنها دومًا هي… جوهر لا يتغيّر، وإن تغيّرت الموسيقى من حوله.وفي شهادات كبار الفنانين العالميين، يتكرّر اسمها كرمزٍ للندرة. قال عنها أحد كبار الملحنين الفرنسيين: “فيروز تملك صوتًا لا يُفسَّر… إنه يأتي من مكان لا نعرفه.” أما العرب، فلا يُجمعون على شيء كما يجمعون على فيروز. في زمن الانقسام، صوتها ظلّ مساحة مشتركة نادرة، عابرة للطوائف، وللأوطان.هي امرأة تُشبه الصمت المهيب. ترفض أن تشرح نفسها، أو أن تدخل في مهاترات. لا تُجري مقابلات، لا تردّ على الشائعات، لا تعيش في ضوء وسائل التواصل. وفي هذا الصمت، تكمن عظمتها. كأنها تقول: “دعوا صوتي يتكلّم وحده، فهو كفيل بأن يُخبركم من أكون.”ويبقى صوت فيروز، كما هو، لا يشيخ ولا يُنسى. نرجع إليه كلّما خانتنا الذاكرة، أو أثقلنا التعب. نغلق العالم من حولنا، ونفتح شباكًا صغيرًا على صوتٍ، يشبه الصلاة، يشبه المطر، يشبه الوطن حين كان حلمًا.