محمد محمود غدية يكتب: مذكرات سيدة

محمد محمود غدية يكتب: مذكرات سيدة

فى أجندة صغيرة أنيقة، وجدها فوق مقعد القطار، لم ينتبه صاحبها لفقدها، أو وضعها خصيصًا لمشاركة قارئها آلام كاتبها، والتى كانت بعنوان «يوميات امرأة».مثل كل بدايات الحب الجميلة كانت بدايتها، وحبيبها زميل الدراسة والتخرج والعمل فى واحدة من الصحف المستقلة، التى يرأس تحريرها والده.البدايات أشبه بفيلم هندى به جرعة مكثفة من التشويق والإثارة، موسيقات وقصص حب فى إطار من الفانتازيا، موسيقات وإضاءات ورقصات تحت زخات المطر، فجأة ينتهى عرض الفيلم ويسدل الستار.فى ضربة موجعة أطاحت بالحب والأحلام، تزوج حبيب القلب من ابنة عمه الثرية، التى أغرته بشقتها الفاخرة المطلة على النيل، تستقبل رسالة منه على هاتفها تقول: أعتذر لأننى لم أمنحكِ الحب الذى تستحقينه، تساقطت دمعاتها كالمطر، أشار عليها الزملاء بالاستقالة، والعمل فى صحيفة أخرى مع شهادة خبرة وخطاب توصية من رئيس التحرير الذى يهدف لإبعادها عن ابنه.جاهدت فى تقوية قشرتها اليابسة، التى تحفظ أجزاءها قبل كسرها، تتأمل فى كفيها كأسين أسكراها، الأول: أسكرها طوعًا، والثانى: أسكرها كرهًا، ألقت بهما على الأرض فتهشمتا، راحت تنقل خطواتها، كمن يرسف فى أغلاله، غير عابئة بنزف قدميها فوق شظايا البللور المكسور، النزف بقلبها أوجع، وهى تتذكر أشعاره لها:إلى صاحبة أجمل عيون/ أحببتك بجنون / ولغيرك لن أكون.فى الصحيفة الجديدة وجدت متنفسًا لكتابتها وتحقيقاتها الصحفية، كتبت تحت عنوان «البشر الرماديون» كيف أنهم لا يستطيعون العيش مع اللون الأبيض الناصع، ولا الأسود الحالك طول الوقت، لأنهم ليسوا نورًا خالصًا كالملائكة، ولا نارًا مستعرة كالشياطين، خليط بين الخير والشر والعدل والظلم، الجمال والقبح، الصدق والكذب، لذا نراهم يميلون للعيش فى أردية رمادية.كيف خدعها وهو يردد كذبًا: إن حبه لها صادق متفرد؟.. أغلقت قلبها ورفضت حب زميل لها يتمتع بحب وثقة الجميع، تكفيها صدمة وحيدة. أكد زميلها أن العثرات التى تمر بنا كثيرة، علينا التخفف منها وطويها، اعتذرت وهى تشير إلى قلبها نصف الميت، الذى لم يعد يصلح للحب وللحياة، تعيش أوجاعًا تنوء بحملها الأوراق.ترى ما حال صاحبة اليوميات الآن بعد ربع قرن من بدء كتابتها، حسب التواريخ المدونة، وهى التى تجرعت من الآلام والعذاب الكثير، والتى تقف أمام المرآة كل يوم حسب قولها، تفتش فى وجهها، عن عمر مفقود وأكوان ضائعة.فى آخر اليوميات رجاء لقارئها: أن يقلب أوراقها برفق، مخافة أن يعثر تحتها على قلب، ما زال ينزف حبًا رغم موات نصفه.