اغتيال الهوية الأمومية الفلسطينية!

اغتيال الهوية الأمومية الفلسطينية!

كانت الطبيبة “آلاء النجار “تؤدي واجبها في قسم الأطفال بمستشفى ناصر الطبي في غزة  ، تمشي بين الأسرة، تداوي الصغار، تحتضن الأوجاع وتوزّع حنانها بلمسات مهنية وأمومية. وبينما كانت تُصلح وسادة لطفلٍ مريض، جاءها النبأ المفجع:“قصف عنيف استهدف خان يونس… منزلك يا دكتورة.”تحجّرت اللحظة. تسمرت في مكانها. قلبها سبق الكلمات، سبق العقل، سبق كل التفسيرات.البيت… الأطفال؟!لم يطل الانتظار. لم يُمنح الحزن فرصة للإنكار.بدأت الجثامين تصل، واحدة تلو الأخرى، تسعة أكياس سوداء…تسعة أرواح خرجت من رحمها، وعادت إليها رمادًا.“يحيى، ركان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، سيدين…”تتلو أسماءهم بأنفاس مهزوزة، كأن النطق وحده قد يوقظهم من الموت…لكن لا مجيب. لا حركة. لا بقايا من الحياة…احترق البيت، واحترقت معه الذاكرة.اختلطت رائحة الحليب بالدخان، وحلّ الصمت مكان الضحك.
لم يكن ذلك مجرد قصف، بل نزع قاسٍ للأمومة من جذورها.لقد رحلوا جميعًا. من الرضيع الذي لم يُكمل عامه الثاني، إلى من لم يبلغ السادسة عشرة.وفي لحظة واحدة، خَسرت الطبيبة كل شيء… لم تعد أمًا فقط، بل شاهدة على جثامينها تُحمل أمامها، داخل المستشفى ذاته الذي وهبت له وقتها وجهدها وقلبها.
في غزة، حين تعلّم النساء العالم معنى الصبر، لا تأتي المآسي فرادى، بل تهبط كالسيل، تجرف معها البيوت، الأحلام، وملامح الطفولة. هناك، لا شيء أثقل من لحظة الفقد، ولا شيء أشد قسوة من وداع بلا عناق، بلا بقايا، بلا وقت حتى للدهشة. لكن ماذا لو كان الوداع لتسعة أطفال دفعة واحدة؟هذه ليست مجرد مأساة، بل مرآة مكسورة لوطن يُقصف كل يوم، بينما يصمت العالم.،هذه المفارقة الموجعة، بين مداوية الجراح وضحية الموت، تكشف أن ما يُستهدف فعلًا هو الحياة ذاتها.ما حدث لآلاء ليس حادثًا عابرًا، بل جرح مفتوح في الضمير الإنساني.حين تصل جثامين الأطفال إلى أمهم في مستشفى، لا تعود هناك حاجة للشرح… الدم وحده يتكلم.
في غزة، يُولد الطفل تحت وابل القصف، يكبر في ظل الحصار، ويموت قبل أن يعرف معنى الأمان.وهناك، تموت الأمهات أحياءً، لا مرة واحدة، بل مرات لا تُحصى.مثل آلاء، التي احترق قلبها تسع مرات، وما زال ينبض بألم لا ينتهي.حين يصبح “صراخ الأم لا يُسمع… والحزن يتحول إلى رماد”، من يعيد لها زمنها؟ومن يعوّضها فقدان أطفالها على أبواب البيوت والمستشفيات حيث لا يعودون؟إلى نساء غزة، صانعات النور وسط عتمة الحصار، يا شرف الوجع وصوت الكرامة،..أنتن من تصنعن الحياة من تحت الركام، وتزرعن الأمل في زمن الموت.لا كلمات تُوفيكن حقكن، ولا لغات تحيط بعظمتكن. أنتن الحكاية التي لا تنتهي، أنتن الوطن حين يغيب العالم. نكتب إليكن لا لنواسي، بل لننحني احترامًا لعزيمتكن  وصمودكن.يا نساء غزة، صمت العالم ثقيل، لكن صوتكن أبقى.