لحظة التنفيذ: وفلسفة الاستسلام

لم تكن ليلة عادية تلك التى رأى فيها نبى الله إبراهيم أنه يذبح ولده الذى عاش سنين طويلة يتمناه، حتى منّ الله عليه به، وهو على رأس ست وثمانين سنة من عمره، ولك أن تتصور كم كان عمر إبراهيم حين بلغ ولده الأثير السعى، لقد كان عمره لا يقل عن ١٠٠ سنة، لأن ابنه قد بلغ هذه المرحلة فى سن الـ١٥ سنة فى أقل تقدير، تخيل مدى حاجة أب فى هذه السن إلى ولده الوحيد. مؤكد أن نبى الله إبراهيم عانى إحساسًا عميقًا بالألم والمعاناة فى تلك الليلة التى رأى فيها هذا المنام، وربما يكون قد حاول صرف ما رأى عن ذهنه وتفكيره، لكن الأرجح أنه تيقن أن المنام يحمل إشارة من السماء لا بد أن يستجيب لها وينفذها، حين تكرر على مدار أكثر من ليلة، ومن هنا لم يجد أبوالأنبياء بدًا من أن يواجه ابنه بالأمر الخطير الذى كلفته به السماء.ربما يكون الأب قد تردد كثيرًا قبل أن يخبر ولده بالخبر، وقد يكون استغرق فى التفكير ليالى طوال، وهو يخطط للكيفية التى سيواجه فيها ولده الأثير بأمر السماء، قرر الأب بعدها أن يصحب ولده بعيدًا عن المنزل ثم يتدبر أمره، خرج وفى يده ولده، وسرح بخياله فى المشهد الموجع القادم طيلة الطريق، أحس الأب الذى أنهكته السنوات المائة التى يحملها فوق ظهره بالألم يعتصر قلبه، شعر بأن عقله يكاد ينفجر من التفكير، فى هذه اللحظة داهمه الشيطان، وهل يداهم الشيطان بنى آدم إلا فى لحظات الضعف؟ اعترض إبليس طريق إبراهيم ليصدّه عما انتوى عليه، فقال: إليك عنى يا عدوّ الله، فوالله لأمضينّ لأمر الله. لم يكن إسماعيل يعلم شيئًا عن مسألة الذبح وهو يسير مع والده، لقد أجّل الأخير إعلامه بالخبر حتى آخر لحظة، فلم يسلمه لآلام التفكير فيما هو قادم طيلة الطريق، الأفضل أن يخبره قبل لحظة التنفيذ، لكن إسماعيل كان ينظر إلى أبيه فيشعر بشىء غريب، كان يحس به، كيف لا والولد سر أبيه؟ شعر من ملامح أبيه أن رياحًا صعبة توشك أن تهب، فى هذه اللحظة برز له الشيطان وألقى فى نفسه الاستنتاج المفزع بأن أمرًا خطيرًا قد صدر من السماء يقوم بموجبه إبراهيم بذبح ولده.لك أن تتخيل مشاعر الأب وهو يخبر ابنه بهذا الخبر.. قال تعالى: «فلما بلغ معه السعى قال يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى». خطاب مفعم بالحنان ذاك الذى توجه به إبراهيم إلى ولده، فهو يعلم أن أمر السماء واجب التنفيذ، ومع ذلك فقد ترك الاختيار لابنه «فانظر ماذا ترى».. فكان رد الابن كما يحكى القرآن الكريم: «قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين». يقول «ابن كثير»: «وهذا الجواب فى غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد».أسلم إبراهيم وإسماعيل أمرهما لله، وقال الابن لأبيه كما يحكى ابن الأثير: «يا أبتِ إن أردت ذبحى فاشدد رباطى لا يصبك من دمى شىء فينتقص أجرى، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحنى، فإذا أضجعتنى فكبّنى على وجهى فإنى أخشى إن نظرت فى وجهى أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، فقال إبراهيم: نعم المعين أنت، أى بنى، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته. لحظات عميقة من الألم والمعاناة عاشها الأب وابنه حتى أدركتهما رحمة الله فى لحظة التنفيذ: «فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه فى الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين».لحظة الاستسلام لله هى اللحظة التى تدرك رحمة الله تعالى فيها الإنسان، إنها اللحظة التى يعلم فيها الإنسان ألا ملجأ إلى الله إلا إليه، اللحظة التى يتعلم فيها الإنسان أن لا حول ولا قوة إلا بالله، اللحظة التى يفوض فيها الإنسان أمره إلى الله، يعلن فيها الاستسلام الكامل لأقداره. درس الاستسلام لأمر الله هو الدرس الأكبر الذى يخلص إليه الإنسان من تأمل قصة الذبيح، فقد استسلم إبراهيم لأمر الله: «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا»، ورضى بهذا البلاء الذى وصفه الله تعالى بـ«المبين» لأنه فاق كل الابتلاءات التى سبق وتعرض لها إبراهيم، بما فى ذلك ابتلاء المحرقة التى ألقى بها قومه فيها، وابتلاء الحيرة فى البحث عن الله حتى شاء الله له الهداية، وابتلاء الطرد من الأسرة والهجرة من الأرض التى ولد ونشأ فيها، وابتلاء الحرمان من الولد عقودًا طويلة من عمره. لقد كان الامتحان عسيرًا حين صدر الأمر السماوى لإبراهيم بأن يذبح بيده ولده وقرة عينه، وفى اللحظة التى استسلم فيها هو وولده لأمر الله جاء بإنقاذ من السماء: «وفديناه بذبح عظيم»، لقد افتدى إبراهيم وإسماعيل بصبرهما واستسلامهما لأمر الله الأجيال المتعاقبة من الأسر، فلو أن الأمر قد نفذ وذبح إبراهيم ولده البكر إسماعيل لصارت سُنة، وبات كل أب مطالبًا بذلك من بعد، لكن رحمة الله تعالى أدركت البشر، وباتت السنة هى تقريب الكباش وما أحل الله من ذبائح.. سبحان الرحمن الرحيم.