عندما تختبر حياة البرزخ وأنت حي!

عندما تختبر حياة البرزخ وأنت حي!

أصعب ما قد يمرّ به الإنسان، أن يشعر بأنه حيّ بالجسد فقط، بينما روحه تقف في مكان آخر، تراقب ولا تشارك، تَسمع ولا تُسمَع، تنبض لكنها لا تعيش.أن تمشي بين الناس، ترى وجوههم، تسمع ضحكاتهم، تشاركهم تفاصيل الحياة اليومية… لكنك رغم كل هذا، تشعر وكأنك خلف زجاج شفاف، يفصلك عن العالم، لا يمنعك من رؤيته، لكنه يمنعك من لمسه، هذا هو برزخ الأحياء الذي أتحدث عنه.البرزخ في اللغة يعني الحاجز أو الفاصل بين شيئين، وهو في المعتقدات الدينية المرحلة التي يعيشها الإنسان بعد موته وقبل بعثه يوم القيامة، عالم الأرواح، غير ملموس، لا هو من الدنيا، ولا من الآخرة. وبين المعنيين، نجد أنفسنا اليوم نحيا حياة أشبه بالبرزخ… لا نشارك العالم حولنا كما ينبغي، ولا نستطيع مغادرته. نعيش غربةً ليست في المكان، ولكن في المعنى.لم يكن هذا الشعور بالبرزخ غريبًا على نفوس كبار المفكرين والأدباء، بل عبّر عنه كثير منهم بأشكال مختلفة، معتبرينه حالة نفسية عميقة يشعر فيها الإنسان بالتوتر والقلق، خاصة في فترات الانتقال بين مراحل حياته، أو بين الحياة والموت، فمثلًا، رأى نابغة الأدب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أن البرزخ ليس مجرد مرحلة بين الحياة والموت فقط، بل هو حالة نفسية يعيشها الإنسان حين يشعر بالتوتر والقلق والضياع، وكأن روحه معلقة بين عالمين، لا تنتمي لأحدهما بشكل كامل. هو ذلك الشعور بالغربة الوجدانية والانتظار، حيث لا يستطيع الإنسان أن يحسم أمره بين البقاء والمغادرة، بين ما هو مألوف وما هو مجهول.وهذا ما عبّر عنه أيضا الأستاذ نجيب محفوظ بأبطاله الذين “يمشون في الحياة كأنهم موتى مؤجلون”، يعيشون وسط الناس، لكنهم منفصلون داخليًا عن واقعهم، وهذا يٌعد تعبيرًا أدبيًا مستوحى من روح أعماله، فكثيرا ما تناول أديبنا العالمي في رواياته شعور الانفصال والاغتراب والوجود المزدوج لشخصياته، وفي رواية “ثرثرة فوق النيل”، كثير من شخصيات محفوظ تعيش في حالة تأمل داخلي وشعور بالعزلة رغم وجودهم وسط الناس، حيث تظهر مشاعر الانفصال والاغتراب النفسي، وفي رواية “الحرافيش”، نجيب محفوظ يستعرض كيف يعيش الأفراد صراعات داخلية بين تقاليد المجتمع والتغيرات الحياتية، ما يخلق حالة من الاغتراب النفسي والازدواجية في الوعي، كما أشارت الدكتورة منى بركات في كتابها “الاغتراب في روايات نجيب محفوظ” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب،  إلى أن رواية “ثرثرة فوق النيل” تمثل نموذجًا على اغتراب المثقفينوكأنهميعيشون حالة برزخ نفسي،  وانفصال عن الواقع،  مما يعكس أزمة الهوية في المجتمع. أما الأستاذ عباس محمود العقاد، فقد وصف أقسى أنواع الوحدة بأنها عندما لا يجد الإنسان من يفهم لغته الحقيقية، لغة الشعور والوجدان، لا لغة الكلام فقط، هذه الرؤى تؤكد أن الشعور بالبرزخ النفسي ليس ضعفًا أو هروبًا، بل حساسية مفرطة تجاه ضياع المعنى والقيم، وأن من يشعر به هم الأكثر إدراكًا لحجم الانفصال الذي تعيشه مجتمعاتنا.ولم يأتِ هذا الشعور من فراغ، بل من تراكم مشاهد تتكرر يومًا بعد يوم، مشاهد تفرض على من يحتفظ ببصيرته نوعًا من العزلة غير المرئية، كأن ترى الكذب وقد تحوّل إلى مهارة، والخداع إلى دهاء، والتلون إلى وسيلة للنجاة، أو كأن تٌتابع الصدق يُستهزأ به، والمبادئ تُستبدل حسب المصلحة، والحق يُساوم عليه في المزادات العلنية، أو كأن تجد الوفاء سذاجة، والوضوح تهورًا، والانتماء عبئًا ثقيلًا لا جدوى منه.تبدو الحياة، في هذه اللحظات، كأنها مسرح كبير… لكن الجمهور منشغل بالتصفيق للممثلين الخطأ، فنرى طفلًا يُوبّخ لأنه قال الحقيقة، وعجوزًا يتحسر لأنه لم يعد يعرف إن كان الحق حقًا بالفعل أم لا، ونحن نتابع مواقف يومية لا يُعتذر فيها عن الخطأ، ولا يُكافأ فيها الصواب، ولا يُنصف فيها من تمسك بصوته النظيف وسط الضجيج، وكل هذا يصنع الزجاج الذي يقف خلفه أصحاب الضمائر، لا عجزًا، بل لأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعًا وسط كل هذا التشوّه.وفي مصر، لا تحتاج أن تبحث طويلًا لتدرك حجم الفجوة بين ما نردده من قيم، وما نمارسه على الأرض، وهذا في اعتقادي هو الهم الأكبر الذي يٌعاني منه الوطن والداء الأعظم الذي أصاب البناء المجتمعي، فنحن قد نرفع شعارات الأخلاق في كل مناسبة، ثم لا يتورع كثيرون عن الغش في البيع، أو خيانة الأمانة، أو ظلم من هو أضعف، كما نحفظ أحاديث الصدق، ونشجع أبناءنا على “المشي جنب الحيط”، ونصفق لمن يٌخلّص نفسه بأي طريقة.الوطن لا يعاني فقط من أزمات اقتصادية أو سياسية، بل من أزمة أعمق وأخطر، أزمة في الضمير الجمعي، في تعريفاتنا البسيطة للحق والعدل والخير وقيمة العمل، وحين تغيب هذه المعاني عن الشارع، عن المدرسة، عن البيت، عن الإعلام، فلا غرابة أن يشعر من بقي له حسّ أخلاقي أنه يعيش في البرزخ.هؤلاء ليسوا منعزلين ولا سلبيين، بل هم المرآة التي تفضح الخلل، وتنزف بصمت.وهكذا يظل كل – من تبقى له وعي وضمير – عالقا بين عالمين: عالم نعرف أن مصر تستحقه، وعالم نراها تغرق فيه كل يوم، لا بفعل مؤامرات، بل بأيدي أبنائها الذين نسوا أن الأوطان لا تُبنى بالكلام، بل بالسلوك.وهؤلاء لا يملكون ترف الانسحاب، ولا يملكون أدوات الانخراط،يراقبون، يحاولون أن يفهموا، ويكتموا في صدورهم غصة السؤال: هل ما زال ممكنًا أن نٌعيد بناء هذا الوطن من جديد، على أرضية يتفق فيها الناس على المعنى قبل أن يتفقوا على المصلحة؟أيقن تماما أن أصحاب هذا الوعي ليسوا قلة… وليسوا أوهامًا تائهة في مدينة صاخبة، هم بقايا النور في زمن انطفأت فيه المصابيح، هم شهود العدل في زمن يكتب فيه التاريخ من لا يعرف العدل ولا يعترف به، وإن كانوايعيشونوكأنهم في البرزخ، فربما لأن في أرواحهم ما لم يعد ينسجم مع هذا الواقع، ولأن في قلوبهم بقايا معانٍ لم تعد تجد لها مكانًا في الزحام.قد حان الوقت لتلتفت الدولة، بكل مؤسساتها، إلى أولئك الذين يعيشون بيننا وقد أحاطت بهم شفافية البرزخ النفسي، لا لأنهم رفضوا الواقع، بل لأن الواقع نفسه أنكر وجودهم، هؤلاء لم ينسحبوا من الحياة، بل انسحبت الحياة منهم حين تخلّت عن القيم، وحين صار الصدق موضع شك، والانتماء مادةً للسخرية، والحقائق نسبية في عيون الناس، هم ليسوا أمواتًا، لكنهم عالقون في منطقة رمادية صنعها تجاهل المجتمع، وتكريس الرداءة، وغياب الاعتراف الحقيقي بأصحاب الرؤى الصافية والنفوس النقية.ليس سواها — الدولة — من يملك أن تمدّ إليهم اليد، أن تكسر هذا الحائل الزجاجي بينهم وبين الواقع، أن تٌعيدهم إلى مواقع التأثير والبناء، فهؤلاء يحملون مفاتيح الخروج من المأزق، ورؤيتهم لم تلوثها المصالح ولا غشّاها الضباب، عطاؤهم لا يزال نقيًّا، ورسالتهم لا تزال تنتظر أن تُسمع، وآن الآوان أن يُعاد إليهم اعتبارهم.يبقى الأمل… في أن تخرج من هذا البرزخ إرادة جديدة،تٌعيد صياغة الوعي، وتستدعي المعنى، وتؤمن أن الوطن لا يُصنع إلا حين يتفق الناس على ما هو حق، قبل أن يتفقوا على ما هو نافع، لابد أن تعود البوصلة، وأن تٌفتح النوافذ من جديد، فيجد هؤلاء الطيبون نسمة صدق تهب من جهة الوطن.. فيعودون.