مسعود محمد يكتب: الفتوى ليست مسألة تقتصر على مصر فقط

مسعود محمد يكتب: الفتوى ليست مسألة تقتصر على مصر فقط

يا ريس 
قرأتُ باهتمام بالغ مقال الدكتور باسم عادل في صحيفة “الدستور” بتاريخ 22 مايو 2025، تحت عنوان “فتوى وقانون ودستور: حوار مفتوح مع الأنبا أنطونيوس”، وقد لفتني فيه عمق الموضوع وأهمية النقاش المطروح حول مشروع قانون تنظيم الفتوى الشرعية في مصر.
وبوصفي صحفيًا وباحثًا من لبنان – حيث يعيش مجتمعٌ متنوع دينيًا وطائفيًا يشبه إلى حد بعيد النسيج المصري – أجد أن هذا النقاش ليس مصريًا صرفًا، بل يهم كل المجتمعات العربية، لأن مصر، بحكم مكانتها ودورها، ترسم في كثير من الأحيان الإطار المرجعي الثقافي والديني والتشريعي للمنطقة.
ولهذا السبب، رأيت أن أشارك في هذا الحوار، لا من باب الردّ على شخص، بل من باب الإسهام في صياغة وعي قانوني عربي يحمي التعدد، ويصون الحريات، ويراعي التوازن بين النص الديني والمبدأ الدستوري.
مدخل ضروري: الفتوى ليست تشريعًا
الفتوى، في جوهرها، هي رأي ديني اجتهادي غير ملزم، حتى في التراث الإسلامي نفسه، وقد عُرفت دائمًا بتعدّدها واختلافها بحسب السياق والمذهب والزمن والمكان. ما يدفعني للقلق في مشروع القانون المطروح، هو أنه يسعى لتحويل الفتوى من رأي إرشادي إلى ما يشبه الموقف القانوني الملزم، عبر وضعها تحت وصاية جهة رسمية واحدة، ومنحها غطاءً تشريعيًا في دولة مدنية.
اقتراح أولي: التسمية والدلالة القانونية
التمييز بين الفتوى العامة والخاصة أمر بالغ الأهمية.
• الفتوى الخاصة هي طلب معرفي ديني من فرد إلى عالم، يخصّه وحده.
• أما الفتوى العامة فهي إعلان عن رأي فقهي موصوف بالشرعي في شأن عام، وغالبًا ما يتلقاها الناس كموقف ديني رسمي، خاصة حين تصدر من جهات تحمل طابعًا مؤسسيًا.
لذا أقترح تعديل اسم المشروع ليصبح: “قانون انضباط الفتوى العامة”، بدلًا من “قانون تنظيم الفتوى”، منعًا لسوء الفهم، واحترامًا للفروقات الدقيقة بين التوجيه الديني وبين التشريع العام، ويتم انضباط تلك الفتوى العامة بتحقيق مصلحة أو درء مفسدة، مهما كانت جهة إصدارها، وليس بمبدأ ولاية الفقيه.
الفتوى بين الحرية والاجتهاد
إن حصر الفتوى العامة في جهات بعينها، ومنع باقي العلماء أو الباحثين من إبداء آرائهم الفقهية، ولو على سبيل العرض والتحليل، هو مصادرة مباشرة للحرية الأكاديمية والفكرية. ويطرح علينا تساؤلات دستورية خطيرة:
• هل يُعاقب أستاذ متخصص يشرح لطلابه أو لجمهور إعلامي المذاهب الفقهية المتعددة؟
• هل يُعد ذلك إصدارًا لفتوى عامة، ويُعرض صاحبه للحبس أو الغرامة؟
• كيف نوفّق بين هذا التقييد، وبين نص المادة (65) من الدستور التي تضمن حرية الرأي والتعبير؟
• ألا يناقض ذلك المادة (53) التي تحظر التمييز بسبب الدين أو الرأي أو الانتماء الفكري؟
في ظل الدولة المدنية… من يحكم؟
الدولة، بحسب تعريفها في الدستور المصري ووفق مبادئ الفكر القانوني المعاصر، لا تحكم الناس على أساس الحلال والحرام، بل على أساس المصلحة العامة والمفسدة الاجتماعية. هذا يعني أن مجال القانون هو “الإتاحة والمنع”، وليس “التحليل والتحريم”، وهو فارق جوهري يجب ألا يُطمس.
إن تقنين الفتوى يُحوّل الرأي الفقهي إلى حكمٍ قانوني غير معلن، يُستخدم كأداة ضغط اجتماعي أو سياسي، ما يتنافى مع مبدأ الدولة المحايدة دينيًا في تعاملها مع مواطنيها.
الأثر المجتمعي المحتمل: أمثلة عملية
إن تقنين الفتوى العامة وحصرها في مؤسسة واحدة يُنتج واقعًا ملتبسًا قد يُسيء إلى روح التعدد، وقد يؤدي إلى فرض مرجعية دينية على مواطنين لا يدينون بها.
• الحجاب: هل يحق للدولة فرضه بغطاء فتوى، رغم أنه ليس فريضة في المسيحية؟
• تهنئة غير المسلمين بأعيادهم: فتوى تمنع ذلك تُضعف الروابط الوطنية.
• زي المصطافين أو الاختلاط: ما المرجعية إذا اختلفت الفتوى مع القانون؟
• الخمر واستخدامه في الطقوس: الخمر ركن أساسي في القربان المسيحي عند أكثر المذاهب، فهل تُجرّم الكنيسة إذا استخدمته؟ أليس هذا انتهاكًا للمادة (64) من الدستور؟
الخلاصة: القانون المدني والدستور أولى بالرعاية من الفتوى
لا اعتراض على تنظيم الفتوى من حيث الضبط الأخلاقي والموضوعي لها، لكن الاعتراض على استخدامها غطاء لولاية الفقيه، وتحويلها إلى قانون ملزم يخاطب شعبًا متعدد العقائد والمرجعيات، ويمنح جهة دينية حق تقرير ما هو المقبول والمجرّم.
هذا القانون في صيغته الحالية هو تعديل غير معلن للدستور دون استفتاء شعبي أو نقاش عام.
فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي،
ننظـر إليكم بفخر واعتزاز، وأنتم تقفون دائمًا إلى جانب قضايا أمتنا العربية. لقد كنتم سندًا حقيقيًا للبنان في أزماته، ووقفتم ولا زلتم مع فلسطين وأهلها في معاناتهم ونضالهم، وجعلتم من القضايا العربية قضاياكم. فكنتم الدرع لدول الخليج، والداعم لليبيا واليمن، ولكل من لجأ إلى مصر طالبًا النصرة أو الموقف النبيل.
من هذا المنطلق، أرفع إليكم هذا النداء من مواطن عربي يرى في قيادتكم منارة اعتدال وحكمة: أرجو أن تنظروا في مشروع قانون تنظيم الفتوى، وأن تُعطوا هذه القضية بعضًا من وقتكم، وأنا على يقين أنها لن تفوتكم، فهي تمس جوهر الحريات والتعدد الذي لطالما نادت به مصر.
هل يُعاد هذا القانون إلى مجلس النواب لإعادة بحثه وتطويره بما يراعي حقوق جميع المواطنين، ويصون كرامتهم وضمائرهم؟
كلنا ثقة بفخامتكم، وبأن مصر – أم الدنيا والشرائع – ستبقى حاملة لراية العقل والعدل والريادة في المنطقة.
دعوة صريحة للحوار والتعديل
أدعو المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، إلى توضيح مواقفها، ومجلس النواب إلى مراجعة هذا القانون مراجعة دستورية شاملة تحفظ:
• مدنية الدولة
• حرية الفكر والرأي والابداع
• مبدأ المواطنة
• وتكافؤ الفرص بين المواطنين
• استقلال القانون عن الدينالمواطن ضمير حيّ لا تابع صامت
في النهاية، إن المواطن المصري، مسلمًا كان أو مسيحيًا، له الحق في المعرفة، والاجتهاد، والاختيار. وأي قانون يُصادر هذا الحق هو قانون يناقض جوهر الكرامة الإنسانية والديمقراطية.

صحفي وباحث لبناني  مدير موقع أخباركم – أخبارنا