سها الشرقاوي تكتب: مصر تؤكد: لا للتابعية ولا للاستسلام!

سها الشرقاوي تكتب: مصر تؤكد: لا للتابعية ولا للاستسلام!

في خضم صيف يشتد فيه الطلب على الطاقة، تسلك مصر مسارات متعددة لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وسط مشهد إقليمي معقّد تتداخل فيه المصالح الاقتصادية بالحسابات السياسية. وفي هذا السياق، لم يعد قطاع الطاقة مجرد ميدان تنموي، بل تحوّل إلى أداة نفوذ وردع لا تقل في تأثيرها عن أدوات القوة الصلبة.
القرار الإسرائيلي الأخير بخفض إمدادات الغاز إلى مصر بنسبة 50%، مع طلب رفع الأسعار بنسبة 25%—أي ما يعني أن سعر المليون وحدة حرارية سيصل إلى نحو 9.4 دولارات—لم يكن قرارًا تقنيًا بحتًا، بل حمل أبعادًا سياسية واضحة. جاء هذا التحرك في توقيت شديد الحساسية، تزامنًا مع تعقيدات ما بعد الحرب على غزة وتزايد الحديث عن سيناريوهات مرفوضة مصريًا، مثل التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء. بدا القرار محاولة مباشرة للضغط على القاهرة اقتصاديًا وسياسيًا، في إطار حسابات تتجاوز سوق الطاقة. غير أن الرد المصري جاء حاسمًا وسريعًا، ليتجاوز مسألة تعويض النقص في الإمدادات، ويشكل تحركًا استراتيجيًا أعاد رسم معادلات التعاون في شرق المتوسط. فقد أعلنت القاهرة عن بدء استيراد الغاز من تركيا، في خطوة غير مسبوقة أنهت سنوات من الجمود في العلاقات الثنائية، وحملت ثلاث رسائل واضحة:أولًا، تأكيد استقلال القرار المصري في ملف الطاقة؛ثانيًا، إبراز مرونة مصر في إدارة الأزمات عبر تنويع الشركاء الإقليميين؛وثالثًا، توجيه رسالة سياسية إلى تل أبيب مفادها أن مصر ليست رهينة لأي أنبوب غاز أو ضغوط اقتصادية. وفي السياق نفسه، وقّعت مصر عقودًا طويلة الأجل مع قطر لاستيراد الغاز المُسال بأسعار تقل بنسبة تقارب 20% عن متوسط الأسعار العالمية، ما يعكس استراتيجية متكاملة لتعزيز أمنها الطاقي دون الوقوع في فخ الابتزاز. هذا التحرك يعيد إلى الأذهان سلسلة من الاتفاقيات التي لطالما أثارت جدلًا داخل مصر، بدءًا باتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل عام 2005، التي وُصفت بأنها مجحفة بسبب انخفاض أسعار التصدير والإعفاءات الممنوحة. وتواصلت تلك الشراكات عبر اتفاقيتي 2018 و2022، حيث أصبحت إسرائيل تصدّر الغاز لمصر لإسالته وإعادة تصديره. غير أن غياب الشفافية في بنود تلك الاتفاقيات ظل يثير تساؤلات حول جدواها الاقتصادية والسيادية، ويعزز الانطباع بأن كفة المصالح تميل لصالح تل أبيب. إسرائيل، التي لطالما اعتبرت الغاز موردًا اقتصاديًا استراتيجيًا، باتت تتعامل معه اليوم كأداة جيوسياسية لتوجيه سياسات الدول، ومصر على رأسها. فالضغوط الأخيرة لا تنفصل عن محاولة التأثير على الموقف المصري من قضايا محورية، كإدارة معبر رفح، والرفض القاطع للتهجير القسري، وتقليص الدور المصري في منظومة الطاقة الأوروبية الناشئة. لكن هذه المناورات كشفت في المقابل عن قدرة مصرية عالية على المناورة، واستعداد لفتح مسارات بديلة تعزز من استقلال القرار الوطني وتعيد صياغة الدور الإقليمي للقاهرة بثقة متزايدة.
إن ما يجري لا يمكن اختزاله في خلاف فني حول شحنات غاز، بل هو صراع إرادات تتقاطع فيه الجغرافيا السياسية مع معادلات الطاقة والنفوذ. وإذا كانت إسرائيل تراهن على الغاز كأداة ابتزاز، فإن مصر، بردّها المحسوب، أعادت تعريف مفهوم الردع، مستندة إلى سيادتها الاقتصادية ومرونتها الاستراتيجية، في مشهد يعيد تشكيل موازين القوى في شرق المتوسط.ويبقى السؤال المحوري: هل ستمضي مصر قدمًا في تنويع مصادرها وتعزيز استقلالها الطاقي؟ وهل نشهد نشوء تحالفات إقليمية جديدة تُعيد رسم المشهد الجيوسياسي للمنطقة؟ الإجابة ستتبلور في قادم الأيام، لكن ما هو مؤكد حتى الآن أن القاهرة وجهت رسالة حاسمة: زمن التبعية قد ولّى، ومصر اليوم تملك أدوات جديدة للرفض والمواجهة لم تعتد عليها تل أبيب.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال أن ملف الغاز أصبح أداة من أدوات الضغط على مصر، ليس فقط لاستهداف صانع القرار، بل لإحداث شرخ بين الشعب والدولة، في محاولة خبيثة لدفع الداخل المصري نحو حالة من التململ وعدم الثقة. إلا أن هذا المخطط بات مكشوفًا، ووعي الشعب المصري – الذي طالما أثبت تماسكه في المحن – هو الحصن الحقيقي في وجه هذه الأجندات.
أما الاتهامات المتكررة لمصر بالتخلي عن القضية الفلسطينية، فهي جزء من حملة منظمة تستهدف تشويه الدور المصري. والحقيقة أن القاهرة، رغم كل الضغوط، حافظت على ثوابتها، وأثبتت أن الطريق إلى الحل لا يمر عبر التخلي عن المبادئ، بل عبر التمسك بها بثبات ورؤية استراتيجية.