مصر الجديدة: عندما يصبح التراث أساس المستقبل!

مصر الجديدة: عندما يصبح التراث أساس المستقبل!

في كل أمة شواهد حية على قدرتها على النهوض، شواهد لا تتجسد فقط في رموزها التاريخية أو معاركها الوطنية، بل في مؤسساتها التي صنعت الفارق وخلقت من الواقع العادي أملا متجددا، وكانت الفرصة متاحة بالأمس لأتعرف على واحدة من تجارب النجاح واختلاف القيادة الذي يحقق الفارق في قطاعات الدولة المصرية، وهو ما جعلني أرى الأمل يتحقق فعلًا على الأرض، حيث كنت أحد حضور الاحتفالية الرائعة التي أقامتها شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير  إحدى شركات وزارة قطاع الأعمال العام بمناسبة مرور 120 عامًا على تأسيسها وإنشاء ضاحية مصر الجديدة تحت شعار ” مصر الجديدة.. تراث خالد ومستقبل واعد”، وذلك بحضور رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ووزير قطاع الأعمال العام المهندس محمد شيمي، والمهندس محمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، والدكتورة منال عوض وزير التنمية المحلية، والمهندس شريف الشربيني وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، والدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، والدكتور إبراهيم صابر محافظ القاهرة، ولفيف من السفراء ورجال الأعمال والاقتصاد والشخصيات العامة وكل صاحب اهتمام بعراقة حي مصر الجديدة، وتاريخه، ومستقبله.ربما لا يكون هذا أو ما أكتبه عن قطاع الأعمال العام، فقد كانت لي مواقف ورؤى عبرت عنها من قبل بدافع من الحرص والمصلحة الوطنية والإيمان بأهمية هذا القطاع كجزء لا يتجزأ من هيكل الدولة الاقتصادي، واليوم أجدني أمام تجربة مختلفة تستحق أن تٌذكر، لا لمجرد إشادة عابرة، بل لأن بوادر الأمل حين تظهر، فيكون من الأنصاف أن تٌرى، ومن الواجب أن تٌدعم، وأن نشير إليها بكل اعتزاز وبنفس أهمية التذكير بمواطن القصور، فالموضوعية الوطنية لا تكتمل إلا بالاثنين معًا: النقد البناء حين يلزم، والدعم الصادق حين تستحق الجهود التقدير… إنها تجربة تستحق أن نصفق فيها لتجربة إدارية ناجحة في الدولة المصرية تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية ومؤسس الجمهورية الجديدة.لم يكن الاحتفال الذي أقيم في قصر غرناطة بمصر الجديدة مجرد حدث عادي، بل له العديد من الإشارات الدالة، ذلك أن حضور  رئيس مجلس الوزراء شخصيًا لهذه الاحتفالية لم يكن مجرد مجاملة، بل هو رسالة دعم واضحة لتجربة وطنية نجحت، ورسالة تشجيع أيضًا للآخرين أن يحذوا حذوها، فإرادة الدولة في استنهاض الأصول المعطّلة تحتاج إلى من يترجمها إلى خطط ومشروعات، لا إلى من يعطلها تحت حجج معتادة، وأن الدولة باتت تنظر إلى شركات قطاع الأعمال العام كرافعة أساسية في مشروع التنمية الشاملة، لا عبئا من ماض بيروقراطي شديد التكلس.وفي قلب هذه الملحمة، يقف قصر “غرناطة” شامخًا بطابعه المعماري الفريد، حارسًا لذاكرة الحي، وشاهدًا على عبقرية التخطيط والعمارة، وهذا القصر لم يكن مجرد مبنى أثري بل مركز للضيافة الرفيعة، وملتقى للنخبة الثقافية في النصف الأول من القرن العشرين،  وقد كان لي شرف التجول في أروقته، حيث افتتح الدكتور مصطفى مدبولي أعمال الترميم التي راعت أدق تفاصيل الحفاظ على الطراز الأندلسي الفريد، ولمن لا يعرف، فإن قصر غرناطة الذي شُيّد في ثلاثينات القرن الماضي كان واحدًا من أبرز المعالم التي ارتبطت بتاريخ مصر  في زمن كانت فيه مصر تبهر العالم بثقافتها الحضرية وعمرانها المتقدم، وكان الملك فاروق يحضر إليه بنفسه لمتابعة سباقات الخيل التي كانت تُقام في ساحة قريبة من القصر، وبالأمس تم إعادة افتتاحه ليحيا من جديد، مركزًا ثقافيًا وسياحيًا وفق رؤية حضارية متكاملة، بالشراكة مع شركة متخصصة في إدارة الأصول التراثية، وهذا يعكس قدرة الدولة على إعادة توظيف التراث بما يخدم الاقتصاد والهوية معا، ولم يكن لهذا أن يتم دون شراكة مدروسة مع القطاع الخاص المتخصص لضمان استدامة المشروع، وفتح آفاق ثقافية جديدة. والمعروف أن شركة مصر الجديدة تعد من أقدم ثلاث شركات في العالم في مجال التطوير العقاري، وأنها بدأت عام 1905 على يد البارون إمبان، الحالم القادم من بلجيكا، الذي لم يرد أن تكون القاهرة فقط عاصمة للحكم، بل نموذجًا للحضارة والتمدن، ولذلك أنشأ مصر  الجديدة  كضاحية متقدمة، يختلط فيها الطراز الأوروبي بالروح الشرقية، ويجتمع فيها التقدم المعماري مع احترام البيئة والمجتمع، وكانت منطقة مصر الجديدة في ذلك الوقت مجرد صحراء جرداء وعرض “إمبان” خلال هذه الفترة على الحكومة المصرية فكرة إنشاء حي في الصحراء شرق القاهرة واختار له اسم “هليوبوليس” أي مدينة الشمس، كما فكر في إنشاء خط للمترو بها ليعمل على جذب أكبر عدد من المصريين  للسكن في هذه الضاحية الجديدة، حيث كلف المهندس البلجيكي “أندريه برشلو” الذي كان يعمل في ذلك الوقت مع شركة مترو باريس بإنشاء خط مترو يربط الحي أو المدينة الجديدة بالقاهرة، كما بدأ في إقامة المنازل بالحي على الطراز البلجيكي الكلاسيكي بالإضافة إلى مساحات كبيرة تضم الحدائق الرائعة، كما بني فندقًا ضخمًا هو فندق هليوبوليس القديم الذي أصبح فيما بعد قصر الإتحادية مقر الحكم في مصر. كانت الضاحية آنذاك مشروعًا فريدًا للنهضة العمرانية، استكملته الدولة لاحقًا، وبالأمس تأكدت أنه يُبعث من جديد بروح العصر.إن عرض الفيلم الوثائقي الذي قُدم خلال الاحتفال، عكس نقطة مضيئة في إبراز محطات الشركة وأصولها التي بدت ضخمة للغاية، غير أن ما لفت نظري بصورة خاصة، هو ما يتعلق بمدينة “هليوبوليس الجديدة”، تلك المساحة الشاسعة من الأرض، التي حصلت عليها شركة مصر الجديدة في تسعينات القرن الماضي كتعويض عن أرضها التي استُخدمت في توسعة مطار القاهرة الدولي، وأقامت الشركة حينها مشروعًا باسم “مدينة هليوبوليس الجديدة”، لكنه ظل ما يزيد على ربع قرن من الزمان رهينة للقرارات الإدارية الغائبة ومشروعا معطلا رغم مقوماته الاستثنائية من حيث الموقع والمساحة، وعنوانًا للإهمال الإداري وسوء التخطيط، وكان الجميع يتساءل: كيف تُهمل هذه المدينة بموقعها الفريد وهي جارة لأهم وأنجح مشروعات المدن الجديدة والتطوير العقاري في القاهرة، فهي تتبع مدينة الشروق إداريا، وتقع على الضفة الأخرى من طريق السويس مقابل “مدينتي”، وهي في مواجهة العاصمة الإدارية الجديدة، وتطل على طريق الإسماعيلية الصحراوي، وهي عبارة عن قلب بين ذراعين هما مدينة بدر ومدينة الشروق، وكنت أتساءل دائما: من صاحب المصلحة في أن تظل هذه المدينة الواعدة، ذات الإمكانات الهائلة، معطلة بلا روح ولا معنى؟لكن ما شاهدته في الاحتفال بدد تلك الصورة تمامًا، وكشف أن الدولة يمكنها تحقيق الاختلاف المنشود حين تسود الإرادة الوطنية، فمدينة هليوبوليس الجديدة  تتحول اليوم إلى كيان عمراني حديث يقوم على فلسفة التخطيط الحضري المتكامل على أكثر من 5400 فدان والتي باتت الآن في قلب الرؤية التنموية الجديدة، لقد دخلت شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير اليوم في تحالفات وشراكات استراتيجية مع الكبار من شركات التطوير العقاري في القطاع الخاص المصري، لتطوير المدينة وفق عقود ذكية، وهو التوجه الذي تسعى إليه الدولة وتشجعه القيادة السياسية، وذلك يفسر لنا اهتمام الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء بهذه التجربة من خلال حضوره هذا الاحتفال، وهذه الشراكات والتحالفات نقلت المدينة إلى عالم آخر، وبدأت تدب فيها روح التطوير وتعبيد الطرق والتشجير وتخطيط المساحات الخضراء وإعادة تنسيق الوجه الحضاري للمدينة بالإضافة رفع كفاءة جميع المرافق والبنية التحتية للمدينة وتوفير خطوط المواصلات الخاصة بها وحتى مناطق مصر الجديدة ومدينة نصر، والأجدر أن كل شركات القطاع الخاص العملاقة في مجال التطوير العقاري سارعت في تدشين مشروعاتها على أرض المدينة التي تحولت في ظرف عامين من أقل سعر  للمتر  في قطاع التطوير العقاري  إلى أعلى سعر  للمتر في مصر، كما أعلنت بعض الشركات عن  غلق باب الحجز للمراحل الأولى بما يعكس أهمية هذا التطوير الذي قامت به إدارة الشركة، والمدهش بالنسبة لي أن هذه التجربة خرجت من شركة مملوكة للدولة تنتمي لقطاع الأعمال العام، وأن الشركة حققت في العام المنقضي أرباحا قدرها 2.6 مليار جنيه تقريبا، وهم رقم ضخم جدا، ويٌعد من الأرباح التاريخية التي حققتها الشركة في مشوارها. إذن نحن نستطيع أن نحقق النجاح المذهل إذا صدقت الإرادة.. وإذا أحسنا التخطيط والتنفيذ والعمل الجاد، وإذا اخترنا الشخص المناسب في المكان المناسب والقيادة الخبيرة الراشدة.وهذا دفع فضولي بالطبع  للسؤال عن صاحب هذا الإنجاز الضخم والتجربة الفريدة التي يجب أن تتكرر في كل الشركات الوطنية، فلابد أن تكون هذه الشركة الوطنية التي لم تعد فقط حاملة لتراث الماضي، بل فاعلا رئيسيا في صناعة المستقبل، ذات قيادة واعية تعيد تعريف دورها من جديد، وتعيد استمرار تحقيق الحلم الذي بدأه البارون إمبان منذ 120 عاما، وتضع المشروع والمكان والمعنى في قلب خطتها، وتأكدت من ذلك حين أعتلى الدكتور  مهندس سامح السيد العضو المنتدب التنفيذي المنصة لإلقاء كلمته أمام رئيس الوزراء، والذي بدا حاضر الذهن، واضح الرؤية، مُلمًّا بالتفاصيل، مؤمنًا بدور شركته في التنمية، ومتشبعا بتاريخها، ومدركا لغاية الدولة وأهدافها، وقدم رؤية واقعية وطموحة في آن واحد، تقوم على التوازن بين الاستدامة الاقتصادية والحفاظ على الخصوصية المعمارية والثقافية، ورأيت من حديثه وعرضه أنه قائد تحويلي كان بإمكانه أن يٌغير مسار شركة مصر الجديدة من مجرد كيان عجوز محبط، إلى شاب قوي عصري يحتل مرتبة الصدارة في مشروعات البناء والتطوير العقاري في مصر الآن، وقد استطاع أن يحل أزمات الشركة من خلال الحلول الجديدة والإبداعية ومن بوابة الشراكات والتحالف مع القطاع الخاص الوطني والمشهود له بالتجارب والإنجازات الكبيرة والمهمة، لقد استطاع هذا المدير الناجح في أن يقدّم نموذجًا لما يجب أن يكون عليه قيادات شركات قطاع الأعمال العام، خاصة في تجربته الرائدة التي استطاع أن ينقل فيها مدينة هليوبوليس الجديدة من حالة الترقب إلى أفق الحركة والتنمية بروح منضبطة وفكري عصري، وتكليف رئيس لجهاز المدينة هو اللواء خالد البحيري من القيادات الواعدة والواعية لمسئولية هذا التطوير الذي يٌعد دور وطني مهم في هذه المرحلة، وهو ما جعل مجلة فوربس وللعام الثاني على التوالي تختار الدكتور مهندس سامح السيد ضمن قائمة “فوربس الشرق الأوسط” لعام 2025 لقادة الشركات العقارية الأكثر تأثيرا في المنطقة، وذكرت المجلة أن هذا التقدير جاء بعد النجاحات الهامة التي حققتها شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير  تحت قيادته.التجربة التي استخلصتها من احتفالية الأمس وبعد الكلمة الهامة التي ألقاها المهندس محمد شيمي وزير قطاع الأعمال العام، أن الدولة تجني ثمار جهود التطوير في شركات قطاع الأعمال العام إذا أحسنت التخطيط والتنفيذ، وأن شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير، بقيادتها الحالية، تبدو تجربة جديرة بالدراسة، وأقرب ما تكون إلى النموذج الذي نأمل أن تسير على نهجه باقي شركات القطاع.شكرًا، هذه المرة، لوزير قطاع الأعمال العام المهندس محمد شيمي، على إيمانه بأن إعادة الحياة في شرايين شركات القطاع تبدأ من إحياء الرؤية، لا من دفاتر الحسابات فقط، وما كان من الممكن أن تحقق شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير كل هذه الإنجازات إلا بحسن اختيار الوزير لقيادة الشركة ومجلس إدارتها ورؤيته الثاقبة في دعم الشركة والوقوف خلف نجاحاتها، ففي هذه التجربة نعترف بأن وزارة قطاع الأعمال العام نجحت في إعادة توظيف الأصول برؤية وطنية وعقل اقتصادي، حتى تصبح التنمية الحقيقية أمرًا ممكنًا.