اعتداء صارخ على “جوع لا يُحتمل”!

تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مشاهد مؤلمة تُظهر آلاف الفلسطينيين، من رجال ونساء وأطفال، وهم يتدافعون نحو أحد مراكز توزيع المساعدات في قطاع غزة، في محاولة يائسة للحصول على ما يسدّ جوعهم. فالجوع – كما يُقال – “كافر”، لا يعرف حدودًا ولا اعتبارات. وقد عكست هذه الصور الصادمة حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع تحت الحصار الإسرائيلي المشدد منذ ما يقارب ثلاثة أشهر. لقد لامست هذه المشاهد وجدان العالم، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن جريمة تُرتكب على مرأى ومسمع من الجميع، وسط صمت دولي مخزٍ وعجز عن اتخاذ موقف يوقف هذا الانهيار الإنساني المتفاقم.وقد جرت محاولة توزيع المساعدات عبر ما تُعرف بـ”مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية”، وهي جهة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، ومرفوضة من قِبل الأمم المتحدة بسبب افتقارها إلى الحيادية والشفافية. نُفذت العملية داخل ما يُسمى بـ”المناطق العازلة” جنوب القطاع، وهي مناطق تخضع بالكامل للسيطرة والرقابة الإسرائيلية.والمثير للريبة أن العملية تمت بإقصاء متعمّد للمنظمات الدولية والجهات الإنسانية ذات الخبرة، ما دفع وجهاء العشائر وممثلي المجتمع المدني في غزة إلى التأكيد أن هذا الإقصاء كان السبب المباشر في انهيار العملية سريعًا، وتحولها إلى فوضى.تحت وطأة الجوع والانهيار الاقتصادي الكامل، توافد الآلاف من السكان إلى مركز المساعدات في محاولة يائسة للحصول على الغذاء. لكن الرد الإسرائيلي جاء بإطلاق النار مباشرة على الحشود، ما أسفر عن إصابة عدد من المدنيين، بحسب ما أفاد به المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، لكنها تعكس نمطًا ممنهجًا في تعامل قوات الاحتلال مع المدنيين في القطاع، حيث يُقابل الجوع بالرصاص، ويُعامل المحتاجون كتهديدات أمنية.وفي محاولة لاحتواء موجة الغضب الدولي المتصاعدة، خرج ” نتنياهو “بتصريحات استفزازية وصف فيها ما حدث بأنه “فقدان مؤقت للسيطرة”، منكرًا أن تكون إسرائيل تنتهج سياسة تجويع ممنهجة ضد سكان غزة، وواصفًا الاتهامات الموجهة لحكومته بأنها “أكاذيب”.إلا أن هذه التصريحات تتناقض تمامًا مع تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وحتى وسائل الإعلام العبرية، التي وثّقت بالأدلة فشل الجهة الإسرائيلية المسؤولة عن تنظيم عملية الإغاثة، وسوء إدارتها الذي أدى إلى حالة من الفوضى والانهيار. وهو ما يؤكد أن ما جرى لم يكن خللًا طارئًا، بل نتيجة مباشرة لسياسات ممنهجة تقوم على الحصار والتجويع.التحول في آلية توزيع المساعدات – من خلال إقصاء المنظمات الدولية وتكليف جهات مرتبطة بالاحتلال – يكشف عن استراتيجية إسرائيلية جديدة في إدارة الأزمة: تحويل العمل الإنساني إلى أداة ضغط سياسي وأمني، وتوظيف الجوع كوسيلة لإخضاع السكان.ويبدو أن إسرائيل تحاول إعادة إحياء نموذج “الإدارة المدنية” القديمة، ولكن بصيغة جديدة، عبر مؤسسات تحمل واجهة إنسانية بينما تخفي في جوهرها أهدافًا أمنية وعسكرية. وهو ما يفسر الإصرار على تهميش دور الأمم المتحدة ومنعها من أداء دور فاعل في تنظيم عمليات الإغاثة.ما جرى لا يمكن اعتباره مجرد فشل لوجستي في توزيع المساعدات، بل يمثل دليلًا دامغًا على حجم الجريمة المرتكبة بحق أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين، حُرموا من أبسط مقومات الحياة، وتحولوا إلى أدوات في صراع سياسي لا يرحم. إنها ليست أزمة إنسانية فحسب، بل كارثة أخلاقية تتطلب تحركًا عاجلًا من المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، لوقف هذه المأساة المستمرة، ومحاسبة من حوّل رغيف الخبز إلى سلاح في حرب ضد المدنيين.