واقعية «عودة سيد الأحمر» يمكن أن تُعبّر عنها بعنوان آخر مثل: “الواقعية في قصة «عودة سيد الأحمر»”.

رحم الله العالم والناقد الكبير الدكتور عبدالمحسن طه بدر، الذى عرّف الأدب بأنه التعبير بالكلمة عن تجربة إنسانية صادقة وعميقة، والمقصود بالصدق هنا ليس المعنى المعروف المضاد للكذب. وفى كتابه «الروائى والأرض» الذى صدر عن دار المعارف عام ١٩٨٣، تناول برؤية نقدية علاقة الواقع بالذات من خلال روايات الأرض والفلاح وأيام الإنسان السبعة للكبيرين عبدالرحمن الشرقاوى وعبدالحكيم قاسم. وفى عام ٢٠٢٥ يصدر الأديب الكبير شعبان يوسف رواية عودة سيد الأحمر، التى تعد إضافة لافتة للمشهد الروائى العربى، حيث يقدم فيها الكاتب رؤية عميقة لتداخل التاريخ بالذات، والواقعى بالأسطورى، فى نسيج سردى محكم ومعقد. وتتكشف الرواية كرحلة استكشافية داخل أعماق النفس البشرية وتفاعلاتها مع سياقها الزمانى والمكانى، فى محاولة لفهم أثر الماضى على الحاضر، وتحديدًا أثر تجربة الثورة على الأفراد والمجتمعات.يبرع شعبان يوسف فى بناء شخصية «سيد الأحمر»، الشخصية المحورية التى تعود بعد غياب طويل، محملة بأعباء الذاكرة وخيبات الأمل، لتجد أن عالمها القديم قد تبدل، وأن الثورة التى آمن بها قد أفرزت واقعًا مغايرًا لتطلعاتها. هنا تكمن براعة الكاتب فى تصوير التناقض بين الصورة المثالية للثورة وواقعها المرير، حيث تتحول الأحلام الكبرى إلى كوابيس صغيرة، وتتآكل المبادئ تحت وطأة المصالح والتحولات. ويقدم شعبان يوسف عبر سيد الأحمر نموذجًا للإنسان الثورى الذى يجد نفسه غريبًا فى عالمه الخاص، محاطًا بشخصيات تعكس جوانب مختلفة من المجتمع المصرى بعد الثورة، من الانتهازى إلى المحبط، ومن المتمسك بالوهم إلى الساعى للتصالح مع الواقع.وتتسم الرواية بأسلوب سردى متعدد الأصوات والطبقات، حيث يتداخل صوت الراوى العليم مع مونولوجات الشخصيات وتدفقات وعيها، ما يمنح النص ثراء وتعددية فى الرؤى. ويلجأ الكاتب إلى تقنيات سردية معقدة، ما يتطلب من القارئ يقظة وتفاعلًا مستمرين لفك شفرات النص.هذه البنية السردية ليست ترفًا فنيًا، بل انعكاس للفوضى والاضطراب الذى يعيشه الأبطال والمجتمع ككل. ويبرز كذلك الجانب الرمزى فى الرواية بشكل واضح، فشخصية «سيد الأحمر» نفسها يمكن قراءتها كرمز للثورة الموءدة أو الحلم الضائع، فى حين تمثل الأماكن والأشياء رموزًا لمراحل تاريخية أو تحولات نفسية. على سبيل المثال يمكن قراءة البيت القديم الذى يعود إليه سيد الأحمر كرمز للوطن الذى تغيرت ملامحه، والأحمر كرمز للدم والتضحية التى لم تؤت ثمارها المرجوة.يضع الكاتب أيضًا قضية الذاكرة فى بؤرة الاهتمام، فالسرد ملىء بالاسترجاعات والمشاهد العائدة من الماضى، ما يؤكد أن الحاضر ليس سوى امتداد لماضٍ مثقل بالأحداث والتجارب. الذاكرة هنا ليست مجرد استدعاء لأحداث مضت، بل هى فعل مقاومة ضد النسيان، ومحاولة لإعادة بناء ما تهدم، أو على الأقل فهم أسباب التهدم.مع كل هذا العمق والتعقيد، قد يواجه بعض القراء تحديًا فى تتبع خيوط السرد المتشابكة، فكثرة الإحالات التاريخية والسياسية قد تتطلب معرفة مسبقة بالسياق التاريخى. ومع ذلك فإن هذه الصعوبات لا تنتقص من القيمة الفنية للرواية، بل تزيدها عمقًا وتحديًا.إن «عودة سيد الأحمر» ليست مجرد رواية تسرد أحداثًا، بل هى تحليل نقدى للثورة وما بعدها، تأمل فى طبيعة التغيرات الاجتماعية وأثرها على الفرد، وتساؤل عن معنى العودة بعد الغياب، وعن إمكانية استعادة ما فقد. إنها دعوة للتفكير فى العلاقة بين الأيديولوجيا والواقع، وبين الأحلام التى تبنى والنتائج التى تجنى.وينجح شعبان يوسف فى تقديم عمل روائى يثير الأسئلة أكثر مما يقدم إجابات، ما يجعله نصًا حيًا يدعو إلى التأمل والنقاش، ويؤكد أن الأدب ليس مجرد حكاية، بل هو مرآة تعكس الواقع وتعيد تشكيله فى آن واحد، مقدمًا بذلك مساهمة مهمة فى الأدب العربى المعاصر.وتعد شخصيات رواية «عودة سيد الأحمر» بمثابة مرايا متعددة تعكس الواقع المرير لمصر ما بعد الثورة. «سيد الأحمر» نفسه، العائد المُنهك، يجسد الخيبة والأمل الضائع فى مشروع الثورة، إذ يجد نفسه غريبًا فى وطنه الذى تغيرت ملامحه. وتتنوع الشخصيات المحيطة به لتمثل أطياف المجتمع. هذه الشخصيات ليست مجرد أبطال للقصة، بل نماذج بشرية حية، تجسد تناقضات المجتمع وصراعاته الداخلية، كاشفة عن الأثر العميق للتحولات السياسية والاجتماعية على النفس البشرية والعلاقات الإنسانية.