عصمت النمر: فن الردح منصة نسائية، والكاسيت كان وسيلة التواصل للفقراء (مقابلة) 2-2

في الجزء الثاني والأخير من حوار عصمت النمر، الباحث في التراث الشعبي، يغوص في عالم “الردح” المصري، الذي يتجاوز كونه مجرد سلوك سوقي إلى شكل من التعبير الثقافي واللغوي. ونتابع رحلة “النمر” مع التراث الموسيقي، تاريخ تسجيل القرآن بصوت المرأة، وأهمية الكاسيت كوسيلة لنقل الثقافة في السبعينيات وغيرها.
هل الردح مجرد سلوك سوقي أم شكل من أشكال التعبير الشعبي والثقافي في المجتمع المصري؟
“جرا إيه يا دلعدي؟ لا يا عمر، دا أنا أفرش لك الملايه وأخلي اللي ما يشتري يتفرج”، هكذا تبدأ إحدى جولات “الردح”، التي لم تعد مقتصرة على مشاهد الدراما، بل تجذرت في الوعي الشعبي المصري، وشكلت نوعا من المواجهة اللفظية التي تتعدى حدود الشتيمة لتصبح أداء مسرحيا مكتمل الأركان. إن الردح ليس سلوكا عشوائيا، بل ممارسة لغوية قائمة على قواعد غير مكتوبة. فالمرأة “الرداحة” لا تعتمد فقط على الصراخ، بل على الذكاء اللفظي، الإيقاع، والتعبير الجسدي، بهدف سحق الخصم نفسيا دون استخدام العنف الجسدي.”يا دلعدي” ليست مجرد تعبير غاضب لانها تحوير لعبارة “يا اللد الاعداء”، أي “يا أشد أعدائي شراسة” والتي تستخدم في سياق هجومي ساخر والمفارقة، أن هذه الكلمة قد تستخدم أحيانا مع الأحباب كدعوة للحماية من شر الحاسدين.أما “يا عمر”، تنمتمي للعصر الفاطمي، حين كان الخطباء يهاجمون عمر بن الخطاب لأسباب مذهبية ومن على المنابر، صار اسمه يستخدم كسخرية، وانتقل التعبير إلى العامة في سياق الردح، دون وعي كثيرين بجذوره السياسية والدينية.حين تقول امرأة: “أفرش لك الملاية”، فهي تعلن بدء المعركة وهذه العبارة ترجع لعادات سكندرية قديمة، حيث كانت المرأة تفرد “ملايتها” على الأرض استعدادا لمواجهة كلامية طويلة، الملاية لم تكن مجرد غطاء، بل رمزا للمواجهة والجرأة والقرار بعدم التراجع.لطالما كان الردح وسيلة النساء للدفاع عن أنفسهن في مجتمع ذكوري قد لا يتيح لهن فرصا كثيرة لإثبات الذات، أن المرأة القوية قد لا تلجأ للردح من فراغ بل باعتباره وسيلة لحماية سمعتها أو ردع من يتعدى حدود الأدب، بل إن هناك من النساء من يلجأن إلى استئجار “رداحات” مقابل المال لفضح خصومهن أو الثأر لكرامتهن، مما يعكس قوة هذا الفن وقدرته على التأثير في الرأي العام الشعبي.الردح فن شعبي بكل ما يحمله من تناقضات، قد نرفضه أخلاقيا، لكننا لا نستطيع تجاهله كجزء من تراثنا إنه مرآة للمجتمع… فيها الغضب، والفكاهة، والظلم، والكرامة، وكل ما يجعلنا بشرا”.
لماذا قررت بيع مكتبتك، وما الذي دفعك لاختيار بائع مصري بدلا من العروض الخليجية؟
كنت أذهب يوميا إلى سور الأزبكية، حتى أصبحت على علاقة صداقة قوية بالباعة هناك، خاصة حينما كان السور لا يزال موجودا أمام دار الأوبرا، ممتدا من المسرح القومي وحتى نهايته.للأسف لم أجد من أبنائي من يهتم بها أو يرغب في الاحتفاظ بها، مما جعل زوجتي تشعر بالضيق من الكم الكبير المتناثر في أرجاء البيت، فقررت في أحد الأيام، أثناء تواجدي بالقاهرة، أن تحضر سيارة كبيرة وتجمع فيها الكتب داخل كراتين وترسلها في بيت القرية، “قلت لنفسي في النهاية هم سيبيعونها بعد وفاتي، فليكن أن أبيعها الآن لمن يستفيد منها فعلا”.بالرغم من ذلك رفضت عروضا عدة من أشخاص قدموا من دول الخليج، تحديدا من الإمارات وقطر والسعودية، كانوا راغبين في شراء مكتبتي، لكنني فضلت أن تبقى هذه الكتب في مصر، وقلت لنفسي: حتى لو اشتراها مصري وباعها لاحقا، يكفي أنه قد يهتم بها، أما هؤلاء فلا أعتقد أنهم مشغولون فعليا بقيمتها التراثية”.
ما العلاقة بين “العديد” الصعيدي، والألحان القبطية، والموسيقى الفرعونية، ولماذا لم يوثق المصريون هذا التراث؟
كانت والدة الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي واحدة من أشهر المعددات بالصعيد،اسمها “أم عبد الرحمن”، وقد ورث الأبنودي التراث الغنائي من والدته، التي كانت تؤدي العديد بطريقة فريدة، ما ساعده على توثيق هذا النوع من الفنون الشعبية.أن طقوس الحزن لم تكن تقتصر على الغناء فقط، بل كان المشيعون يقطعون ملابسهم، يشقون الجلابيات، ويهيلون التراب على رؤوسهم، وهي عادات ما زالت موجودة في الريف حتى الآن، مؤكدا أن العديد لم يكن مخصصا للملوك أو النخبة، بل كان يؤدى لعامة الشعب فقط، ولم يكن هناك شيء اسمه “عديد ملكي”، بل هو تقليد شعبي بحت. وعن طقس الطواف حول القرية تقول بعض الروايات إن الجنازة كانت تطوف بالميت سبع مرات حول القرية، وبعضها يقول إنهم كانوا يستمرون في الحزن لأسبوع كامل، إلا أن الثابت أن الطواف كان يتم بعدد فردي، وهو أمر له دلالة رمزية في الثقافة الشعبية. أن الآلات الموسيقية كانت معروفة منذ زمن الفراعنة، وتم تصنيع نسخ مطابقة لها في العصر الحديث، مثل الهارب الكبير والصغير، وعزف بها في حفلات فنية، لكن هذه المحاولات جاءت من باحثين أجانب، في حين أن المصريين أنفسهم لم يحاولوا توثيق هذا التراث الموسيقي بالشكل الكافي، واستغرب من غياب الألحان المصرية القديمة. غير أن الكنيسة القبطية لعبت دورا مهما في حفظ هذا التراث، والترانيم القبطية هي امتداد للألحان الفرعونية، وقد جمعت عددا من الترانيم القديمة، رغم أن كلماتها القبطية غير مفهومة، فإنها تحمل كما كبيرا من الشجن، مما يعكس عمقها التاريخي والوجداني. أما الغناء والموسيقى خرجا من المعابد، سواء في الحضارة المصرية القديمة أو من خلال الكنيسة فيما بعد، وأن الابتهالات الدينية الإسلامية تأثرت بهذا الإرث القديم، حتى أن بعض التواشيح تشبه في نغمتها الترانيم القبطية.
هل كان شريط الكاسيت هو ‘سوشيال ميديا المصريين’ في السبعينيات؟ وكيف ساعد في نشر أصوات مثل الشيخ إمام وعدوية؟
كان الكاسيت بمثابة “السوشيال ميديا” في تلك المرحلة، وساهم في نقل ثقافات مختلفة، بدأت الثقافة الصحراوية تتسرب إلى مصر عبر شرائط الكاسيت، رغم ما صاحبها من ضعف في المضمون أحيانا، لكنها كانت تنقل ألوانا من الثقافة الأصيلة، رغم وجود سرقات، لكنها كانت حاملة لجوهر التراث”. لم يحظ الشيخ إمام بشهرة كبيرة داخل مصر حتى اليوم، على عكس حضوره القوي في بلدان المغرب العربي، موضحا: “إمام معروف في تونس والمغرب والجزائر وسوريا أكثر من مصر، أتذكر حين زرت تونس وجدت سائق تاكسي يشغل شريطا للشيخ إمام، ولم يصدق أنني من مصر وأحب الشيخ إمام أيضا، عندما جلبت لهم شريطا لعدوية، دهشوا من معرفتي به وقالوا إنهم لا يعرفون أنه محبوب في مصر”. “رغم أن الشيخ إمام وعدوية ينتميان إلى عالمين مختلفين، فإن كلا منهما كان حالة فنية فريدة. أما الكاسيت لعب دورا مهما في نقل هذه الحالات من هامش المجتمع إلى مساحاته الأوسع، وكان نقطة تحول كبرى في نشر الثقافة والموسيقى، خصوصا في أواخر السبعينيات، حين بدأت الطفرة الحقيقية للكاسيت”. في سنة 2019، تلقيت اتصالا من أمريكي اسمه سيمون أندرو، تحدث معي بالعربية المكسرة، وعرفني بنفسه معتذرا لأنه يتصل دون سابق معرفة، قال لي إنه يحضر رسالة دكتوراه عن تأثير الكاسيت في الحياة الاجتماعية في مصر خلال السبعينيات، وكيف لعب الشريط دورا في نقل الرسائل من العمال المصريين في بلاد النفط إلى ذويهم بدلا من الخطابات المكتوبة، وقتها قلت في نفسي: يا ابن الإيه، جاي من أمريكا مخصوص عشان تبحث تأثير شريط الكاسيت في حياة المصريين، ومافيش مصري فكر في دا. “كنت أحكي هذه الواقعة لصديق مخرج سينمائي، فقال لي إن الموضوع يصلح لفيلم تسجيلي رائع مرت الأيام، وظل صديقي المخرج يلح علي كي ينجز هذا العمل، وكنت أتلكأ، خاصة في ظل حصار كورونا، حتى جاءني ذات يوم في الزقازيق مع فريق العمل، وصورنا فيلما قصيرا بعنوان زمنا، الفيلم قد لا يكون طويلا، لكنه يحمل الكثير من ملامح زمن جميل وغربة موجعة.
هل كانت المرأة مقرئة للقرآن قبل ظهور الإذاعة؟ ولماذا اختفى صوتها من المشهد رغم وجود تسجيلات تاريخية تؤكد حضورها؟
الأمر لم يكن كما يظنه البعض من غياب للمرأة في هذا المجال، بل على العكس، فقد اكتشفت وجود تسجيلات لنساء قارئات للقرآن في عشرينيات القرن الماضي، وهو ما اعتبره مفاجأة.وجود تسجيلات للمقرئات النساء يدل على أن هناك قراء رجالا كانوا موجودين أيضا في نفس الفترة، خاصة قبل ظهور الشيخ محمد رفعت، إلا أن انتشار ظاهرة قراءة القرآن عبر الفونوجراف أو الأسطوانات كان مثار جدل، حيث رأى البعض أن صوت المرأة عورة، وأن استخدام هذه الوسائل حرام، حتى تدخل الشيخ المطيعي، الذي أصدر فتوى بجواز استخدام الفونوجراف لتسجيل القرآن. وساهمت هذه الفتوى في انتشار التسجيلات القرآنية، وإن كانت هناك بعض الأصوات التي لم تحظ بإجازات رسمية، مما أثار جدلا حول طريقة التلاوة الصحيحة، خاصة بين الذين يقرأون بطريقة غير مألوفة. وكانت هناك مدرسة خاصة بالتلاوة بدأت مع الشيخ محمد رفعت والشيخ إمام، وأسست لما يعرف اليوم بقراءات القرآن المتعددة، حيث يوجد عشرات القراءات المعترف بها. ومن بين مقرئات القرآن المعروفات، الشيخه كريمة العادلية والشيخه فوقية إسماعيل، ولكن مع مرور الوقت ومنع المرأة من التلاوة في الإذاعة الرسمية، بدأت أصوات الرجال تهيمن على الساحة. وكان يوجد إجازات شرعية تمنح للقارئ من مشايخ كبار، وأهمية هذه الإجازات كوثائق رسمية تثبت صحة قراءة المقرئ، مثلما كان يحدث مع الشيخ نعينع الذي حصل على إجازة من الشيخة أم محمد، والذي يعتبر آخر من حصل على مثل هذه الإجازة في عصره من امرأة. وكان هناك تنوعا في أساليب القراءة والتلاوة، منها ما يشبه الغناء مثل القراءة الفيومي، التي تميل إلى المقامات الموسيقية، ما قد يثير حفيظة البعض، لكنه جزء من التراث القرائي المتعدد، في حين كانت تسجيلات التواشيح محدودة، رغم اهتمام الشيخ محمد رفعت بحفظ التراث الديني. ولدى تسجيلات تاريخية نادرة توثق كل هذه الظواهر، وما نملكه اليوم هو نتاج ثانوي للوسائل القديمة مثل الأسطوانات والفونوجراف، وهناك حاجة ملحة للحفاظ على هذا التراث ونشره.