عندما تُوظف أدوات البحث لهدم الدول: تحليل فرضيات دراسة كارنيجي المستهدفة لمصر

عندما تُوظف أدوات البحث لهدم الدول: تحليل فرضيات دراسة كارنيجي المستهدفة لمصر

ليس أخطر على الأوطان من أن تُستخدم أدوات البحث والتحليل الأكاديمي، التي وُجدت أصلًا لبناء الوعي وتوجيه السياسات نحو الاستقرار، كمعاول لهدم الثقة وتشويه الجهود الوطنية، وحين يلبس الانحياز ثوب الحياد، وتتحوّل مراكز الفكر إلى أبواق مُغلّفة بلغة علمية، يصبح المواطن العادي في مواجهة نتائج “بحوث” لا تستند إلى حقائق بقدر ما تنطلق من تصورات مسبقة، أو أهداف سياسية مستترة، وفي عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد الكلمة المحسوبة، ولا الرسوم البيانية المحكمة، ضمانًا للنزاهة، بل ربما صارت جزءًا من لعبة النفوذ الناعم، التي قد تُشعل شكوكًا في الداخل، أو تُعطي مبررات للضغوط من الخارج.
وتزداد خطورة هذا الاستخدام الموجّه عندما تَصدر مثل هذه الدراسات من خارج الوطن، وتحديدًا من مؤسسات بحثية تنتمي إلى دول تدّعي لنفسها احتكار الديمقراطية والحرية، بينما تمارس في الواقع غطرسة سياسية، وبلطجة اقتصادية، وهيمنة إعلامية على العالم. ومركز كارنيجي للسلام الدولي، الذي يتخذ من واشنطن مقرًّا رئيسيًا له، واحد من هذه الكيانات التي تقدم نفسها بوصفها منبرًا للحكمة والتحليل، لكنها في الجوهر لا تخرج عن كونها أداة ناعمة ضمن أدوات الدولة الأمريكية، تروّج لما يتماشى مع مصالحها، وتتجاهل عمدًا المآسي التي تسببت فيها سياساتها حول العالم، من دعم أنظمة متطرفة، إلى صفقات سلاح مشبوهة، مرورًا بصمت مريب على مجازر تُرتكب في غزة، ومواقف سياسية مزّقت مجتمعات بأكملها.
في 12مايو 2025، نشر مركز كارنيجي للشرق الأوسط دراسة مطوّلة بعنوان “الجمهورية الثانية: إعادة تشكيل مصر في عهد عبد الفتاح السيسي”، من إعداد الباحث يزيد صايغ، وهو كبير الباحثين في المركز، ومتخصص في شؤون الجيوسياسية والتحولات الأمنية والعسكرية في العالم العربي، ولمن يتابع كتاباته، لن تفاجئه نبرة الدراسة التي جاءت امتدادًا لنمط متكرر من التحليلات التي يتبنّاها الباحث تجاه الدولة المصرية، والتي يغلب عليها الطابع التقريري، واللغة التعميمية، والرؤية المُحاطة بريبة سياسية أكثر منها استقراء علمي.
فالرجل، في أكثر من مناسبة، قدّم مقارباته للأوضاع المصرية من زوايا ضيقة لا تُنصف السياق ولا تعترف بتعقيدات المرحلة، بل تُفضّل إلباس الأحداث لباسًا نظريًا يُناسب الخطاب المسبق، حتى لو ابتعد عن الواقع المعيش، ولا يكاد يخلو له طرح عن مصر من مصطلحات مثل “الوصاية العسكرية” أو “قمع الحياة السياسية” أو “تفكيك العقد الاجتماعي”، وهي عبارات تفتقر في كثير من الأحيان إلى التوازن، وتُحيل المتلقي إلى قوالب جاهزة أكثر من إحالتها إلى تفكير تحليلي مفتوح، كما أن الباحث لا يظهر في المنصات الإعلامية التي تستضيفه، سواء المقروءة أو المرئية، إلا من خلال نوافذ ترفع شعارات معارضة للدولة المصرية، بل وبعضها محسوب صراحة على تيارات معادية لها، وفي مقدمتها القنوات الإعلامية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين.
من هذا المنطلق، ينبغي التوضيح أولا أن دراسة “الجمهورية الثانية” لا يمكن فصلها عن هذا السياق الفكري والسلوكي، الذي يبدو فيه الباحث طرفًا في خطاب سياسي مضاد، أكثر من كونه مراقبًا علميًا محايدًا، وهنا تبرز أهمية إعادة قراءة هذه الدراسة، لا من باب رفض النقد أو تحصين السلطة ضد المراجعة، بل من باب فضح القصور المنهجي، وبيان التناقض بين أدوات التحليل وشروط الإنصاف المعرفي.
تأسس مركز كارنيجي للسلام الدولي مطلع القرن العشرين، بزعم تقديم مساهمة فكرية في منع الحروب وتعزيز التفاهم بين الشعوب، ثم تحوّل لاحقًا إلى شبكة مراكز إقليمية، من بينها “كارنيجي الشرق الأوسط”، تُروّج لأفكار السياسة الليبرالية الغربية وتتبنى سرديات جاهزة عن الديمقراطية والحكم الرشيد، غير أن هذه الشعارات سرعان ما تنهار حين تُختبر أمام نماذج واقعية خارج المدار الغربي، إذ تنكشف ازدواجية المعايير، ويتضح أن ما يُسمى بـ”البحث” ليس سوى تعبير ناعم عن رؤية سياسية منحازة، ففي حين يمتنع المركز عن توجيه أي نقد جوهري للسياسات الأمريكية الداخلية أو الخارجية، ويُغفل عن قصد دورها في صناعة الأزمات، لا يتوانى عن إصدار تقارير تحفل بالتأويلات السلبية والتعميمات الجائرة حين يتعلّق الأمر بدول مثل مصر، تُحاول إعادة بناء ذاتها بعد سنوات من الاضطراب.
ومن هذا المنظور، لا تأتي دراسة “الجمهورية الثانية: إعادة تشكيل مصر في عهد عبد الفتاح السيسي” للباحث يزيد صايغ، باعتبارها جهدًا بحثيًا خالصًا، بل باعتبارها جزءًا من نهج متكرر، يتبنّى سرديات نمطية عن الدولة المصرية، ويتجاهل السياق المحلي والتحديات الأمنية والاقتصادية الفريدة التي تواجهها، ويُسقط عليها قوالب مسبقة لا تصلح لقراءتها أو تقييم مساراتها، وبذلك، لا تعكس هذه الدراسة جوهر الرسالة التي تأسس عليها المركز، بل تناقضها صراحة، إذ تتحول من محاولة للفهم إلى وسيلة ضغط، ومن خطاب نقدي إلى خطاب إدانة مقنّع، ومن منبر للحوار إلى أداة لهدم الثقة بين الشعوب ومؤسساتها.
من الناحية الأكاديمية، لا تُقاس قيمة الدراسة بعدد صفحاتها (التي بلغت 52 صفحة) أو كثافة بياناتها، بل بصرامة منهجها، وحيادية أدواتها، ومدى اتساقها مع طبيعة الواقع محلّ التحليل، وإذا كانت الدراسات السياسية والاجتماعية بطبيعتها تنفتح على تعدد القراءات واختلاف الزوايا، فإنها تظل مطالَبة أخلاقيًا ومهنيًا بأن تتحرّى الإنصاف، وتحترم السياق التاريخي والثقافي والسياسي للبيئة التي تتناولها.
ومن هذا المنطلق، فإن ما يطرحه يزيد صايغ في دراسته عن “الجمهورية الثانية” لا يمكن التعامل معه كمجرد رأي في مقابل رأي، بل كخطاب يحمل فرضيات كبرى، ويؤسس – إن قبلناه كما هو – لنظرة مشوّهة إلى الدولة المصرية، تنكر إنجازاتها، وتتجاهل مبررات قراراتها، وتختزل تحدياتها في أوصاف سطحية ومصطلحات مشحونة.
لذلك، لا بد من الوقوف عند الفرضيات الكبرى التي تبنى عليها هذه الدراسة، ومساءلتها علميًا، في ضوء الوقائع، والمعطيات المحلية، وسياقات المقارنة الموضوعية، بعيدًا عن التقعير أو الانفعال.
وجاء في دراسة “الجمهورية الثانية” الفرضيات التالية التي سنثبت تفكيكها ومنها:
1) أن الجمهورية الثانية تقوم على “تفكيك السياسة” وإقصاء الفعل الحزبي.
2) أنها ألغت العدالة الاجتماعية واستبدلتها بعقيدة “لا شيء مجانًا”.
3) أنها أقامت اقتصادًا مزدوجًا يخدم نخبة عسكرية ويتجاهل باقي الشعب.
4) أنها فرضت عسكرة للإدارة والتعليم واحتكرت الفضاء الإعلامي.
وفي الفرضية الأولى:
يدّعي الباحث أن “الجمهورية الثانية” عمدت إلى تفكيك المجال السياسي، وتفريغ الساحة من الفعل الحزبي الحقيقي، واستبدال الأحزاب بكيانات موالية تُدار أمنيًا، ورغم أن هذا الطرح يلقى رواجًا في الخطابات الإعلامية المعارضة، إلا أنه يتجاهل بُعدين حاسمين في فهم المسألة السياسية في مصر: أولهما السياق التاريخي لضعف الحياة الحزبية، وثانيهما تعقيد البيئة الانتقالية التي ولدت منها “الجمهورية الثانية”.
فمنذ مطلع الثمانينيات، تدهورت فعالية الأحزاب السياسية في مصر، لا نتيجة لتدخلات السلطة فحسب، بل أيضًا بسبب هشاشة البناء الداخلي لتلك الأحزاب، وغياب الرؤى البرامجية، واعتماد كثير منها على الزعامات الفردية أو الشعارات العامة، ومع اندلاع أحداث 2011، تفجّرت الساحة السياسية بأعداد ضخمة من الكيانات الحزبية قصيرة العمر، مما خلق فوضى سياسية لا بناءً ديمقراطيًا، عزّزت من انعدام الثقة الشعبية في العمل الحزبي نفسه.
في هذا السياق، كان على أي نظام جديد ـ بما فيه نظام ما بعد 2014 ـ أن يُعيد ضبط المجال السياسي، لا بقصد “الإقصاء”، بل بهدف إعادة تعريف العلاقة بين السياسة والدولة والاستقرار، وحتى إذا سُلِّم بوجود تدخلات أمنية أو اختلال في موازين التمثيل، فإن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن الأزمة الحزبية في مصر أعمق من أن تُفسَّر بإرادة السلطة فقط، بل تعود أيضًا إلى ضعف النخب الحزبية، وتآكل الثقة المجتمعية في جدوى الفعل السياسي غير التنفيذي.
أما توصيف البرلمان بأنه “أداة تمرير بلا قدرة فعلية”، فهو توصيف جزئي يتجاهل طبيعة النظم الرئاسية التي تمنح للسلطة التنفيذية الدور الأكبر في المبادرة التشريعية، كما يتجاهل أن أي تحول ديمقراطي مستقر لا يتم في فراغ، بل عبر بناء تدريجي يحتاج إلى وقت، وتراكم مؤسسي، ومجتمع سياسي ناضج.
إن السياسة في جوهرها ليست مجرد تعددية شكلية، بل مشاركة مسؤولة ضمن بيئة مستقرة، والرهان الذي اتخذته الدولة المصرية كان – كما يبدو – على بناء الاستقرار أولًا كأرضية للإصلاح السياسي، لا العكس، وهو خيار قد يُختلف عليه، لكنه لا يجوز  إدانته بمقاييس مثالية لا تنطبق على الواقع المصري شديد التعقيد.
ننتقل إلى الفرضية الثانية:
في دراسة يزيد صايغ، ادعاؤه بأن الجمهورية الثانية استبدلت العدالة الاجتماعية بعقيدة (لا شيء مجانا) مما أدى – على حد قوله – إلى تفاقم الفقر وتآكل الطبقة الوسطى، حيث يتّهم الباحث النظام المصري بإلغاء سياسات العدالة الاجتماعية، واستبدالها بعقيدة “لا شيء مجانًا”، ما أدّى – حسب زعمه – إلى تدهور الأوضاع المعيشية وتوسيع الفجوة الطبقية، وهذا الحكم، رغم ما فيه من إثارة، يعكس انتقائية تحليلية تُغفل السياق الاقتصادي العالمي والمحلي، وتتجاهل حجم التشوهات الهيكلية التي ورثتها الدولة، وتُقلل من شأن الجهود المبذولة في برامج الحماية الاجتماعية والتحول التنموي، وهذا نرده بالتالي:
أولًا:
لا يمكن الفصل بين السياسات الاجتماعية والموارد الفعلية للدولة، فمصر خرجت من حقبة ما بعد 2011 بحالة شبه انهيار مالي، وعجز مزمن في الميزانية، ودعم غير موجه أرهق الاقتصاد دون أن يُفضي إلى عدالة حقيقية، ومن هنا، جاء التحول نحو “الدعم النقدي المشروط” – كبرنامج تكافل وكرامة – باعتباره أداة أكثر كفاءة وعدالة، تستهدف الفئات الأكثر احتياجًا بدلًا من تعميم الدعم بشكل عشوائي يستفيد منه الغني قبل الفقير.
ثانيًا:
إن مفهوم “لا شيء مجانًا” لا يُقصد به إلغاء العدالة، بل تصحيح ثقافة الاعتماد الكلي على الدولة، وتحفيز الإنتاجية والمسؤولية الفردية، وهي مقاربة تتماشى مع اتجاهات الدول الناشئة التي تسعى للانعتاق من إرث الريعية، فالدعم الحقيقي لا يكون فقط بمنح الأموال، بل بخلق بيئة تشغيل مستدامة، وبنية تحتية تدعم الاستثمار، وفرص عمل تحفظ الكرامة.
ثالثًا:
الادعاء بأن النخبة وحدها هي من استفادت، بينما تراجع وضع الطبقة الوسطى، يُبسط واقعًا بالغ التعقيد، فالتغير في أوضاع الطبقة الوسطى لا يعود إلى سياسات الدولة فقط، بل إلى عوامل خارجية كجائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، وتضخم أسعار الغذاء عالميًا، وهي مؤثرات ضربت اقتصادات كبرى ولم تكن مصر بمنأى عنها.رابعا:
إن مشاريع الإسكان الاجتماعي، وتطوير الريف المصري من خلال مبادرة “حياة كريمة”، لا يمكن القفز عليها حين نتحدث عن العدالة الاجتماعية. فهي برامج غير مسبوقة في تغطيتها الجغرافية والاجتماعية، وتمثل تحولًا من العدالة الخطابية إلى العدالة المؤسسية القابلة للقياس، ثم أن من أبرز المغالطات التي تكرّرها الدراسة، زعمها بأن الدولة المصرية ركّزت جهودها العقارية لخدمة النخب، بينما ألقت بمشروعات الإسكان الاجتماعي في أطراف المدن، بعيدًا عن مراكز العمل والخدمات، وهذا ادعاء مضلل علميًا وواقعيًا، إذ تُبيّن الوقائع الميدانية أن الدولة شرعت منذ سنوات في إقامة مشاريع سكنية متكاملة داخل قلب العاصمة ذاتها، لا على هوامشها.
ويكفي أن نُشير إلى مشروع حي الأسمرات بمراحله الثلاث، والذي أُقيم في منطقة المقطم – أي في أحد أحياء القاهرة الحيوية – ليُشكّل نموذجًا لعدالة التوزيع الجغرافي والاجتماعي، حيث لم يُنفَّذ في الصحراء أو على الأطراف، بل على بعد دقائق من قلب العاصمة، والأمر نفسه ينطبق على مشروعات أخرى مثل بشائر الخير في محافظة الإسكندرية، والروبيكي المتصلة بمنطقة العاشر من رمضان، وكذلك أهالينا 1 و2، التي أُنشئت بالقرب من مدينة السلام.
إن هذه المشروعات لم تكن مجرد بنايات، بل مجتمعات حضارية متكاملة، تضم مدارس، ومراكز صحية، وملاعب، وخدمات لائقة، صٌمِمت لتوفير حياة كريمة بديلة للعشوائيات، لا لترحيل الفقراء إلى الهامش كما تدّعي الدراسة، وبالتالي فإن تعميم الاتهام دون فحص الخرائط والمواقع وسجلات الإسكان يُظهر انحيازًا تحليليًا غير مبرر، لا يخدم الحقيقة ولا يليق أن يصدر عن باحث يُفترض فيه الموضوعية.
وأشارت الدراسة أيضا إلى أن الدولة المصرية أعادت صياغة العقد الاجتماعي بطريقة أحادية، عبر تقليص الدعم، وفرض سياسات تقشف أثّرت سلبًا على الفقراء والطبقة الوسطى، وهو تبسيط مٌخلّ لتجربة إصلاح اقتصادي عميقة وضرورية.
إن العقد الاجتماعي في مصر – كما أعيدت صياغته في السنوات الأخيرة – لا يقوم على “نزع الدعم” بل على تحويل الدعم من دعم عيني مشوَّه إلى دعم نقدي مباشر، يستهدف الفئات المستحقة بآليات أكثر كفاءة وعدالة، والدليل على ذلك هو التوسع في برامج مثل “تكافل وكرامة”، التي استفاد منها أكثر من 20 مليون مواطن، وزادت مخصصاتها عامًا بعد عام.
كما أن الادعاء بتآكل الطبقة الوسطى يتجاهل أن هذه الطبقة – قبل الإصلاح – كانت تعاني أصلًا من تدهور مزمن في الخدمات العامة، وتضخم غير منضبط، وسوق عمل غير منتظم، أما بعد الإصلاح، فقد بدأت الدولة في إعادة بناء البنية التحتية، وتحديث شبكات النقل والصحة والتعليم، وتوسيع فرص التشغيل عبر المشروعات القومية، بما ساعد شريحة واسعة من المجتمع على تحسين أوضاعها المعيشية.
وفي المقابل، تُغفل الدراسة تمامًا السياق العالمي الضاغط، الذي أدى إلى الانكماش الاقتصادي العالمي وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. وفي ظل هذه التحديات، أظهرت الدولة المصرية قدرة على احتواء الصدمة، والحفاظ على توازن دقيق بين الإصلاح الاقتصادي والحماية الاجتماعية، لقد اختارت مصر ألا تؤجل الإصلاح الضروري، وألا تكتفي بالمسكنات قصيرة الأجل، بل أن تعيد صياغة علاقة الدولة بالمواطن على أساس من الشفافية والمسؤولية المشتركة. وهذا التحول – على صعوبته – هو ما مكّن الاقتصاد من الصمود، والمجتمع من الاستمرار في ظل عواصف مالية أرهقت دولًا كثيرة.
وفي الفرضية الثالثة:
روّج الباحث لفكرة أن النظام الاقتصادي المصري بات يخضع لهيمنة نخبة عسكرية، تسيطر على مفاصل الاقتصاد عبر كيانات “موازية” لا تخضع للرقابة، مثل صندوق “تحيا مصر” وصندوق مصر السيادي، إلى جانب شركات القوات المسلحة. وهذه الفرضية لا تخلو من تهويل مقصود، يُغفل التعقيدات الهيكلية لاقتصاد ما بعد الأزمات، ويتجاهل التحولات المؤسسية الجارية في اتجاه الحوكمة والمأسسة والشفافية، ونرصد في نقد هذه الفرضية ما يلي: 
أولًا:
إن وجود صناديق سيادية أو مبادرات رئاسية في حد ذاته لا يعدّ انحرافًا عن النُظم الاقتصادية، بل هو أداة موجودة في غالبية دول العالم – بما في ذلك الديمقراطيات الغربية – بهدف تعبئة الموارد خارج الموازنة العامة لتحقيق أهداف تنموية عاجلة، خاصة في أوقات الأزمات، فصندوق مصر السيادي، على سبيل المثال، تأسس بقانون، وله مجلس أمناء، ويخضع لتقارير رقابية واضحة، وهو يسعى إلى تحفيز الاستثمار المشترك مع القطاع الخاص، لا إحلاله.
ثانيًا:
إن مشاركة القوات المسلحة في بعض القطاعات – خاصة التحتية منها – لا ينبغي اختزالها في إطار “الهيمنة”، بل تُفهم ضمن دور الدولة في مرحلة بناء عاجلة، تفتقر فيها السوق المحلية إلى شركات قادرة على إنجاز مشروعات كبرى بوتيرة سريعة، والغريب أن الدراسة تتجاهل أن هذه المشروعات – من طرق، وموانئ، وأنفاق – تعود في النهاية إلى ملكية الدولة والشعب، وليست امتيازًا حصريًا لكيان مغلق.
ثالثًا:
الزعم بأن الجيش يعمل خارج الرقابة محض مبالغة، فالمؤسسة العسكرية المصرية تخضع لحسابات دقيقة في إطار السياسات العليا للدولة، كما أن أية توسعات أو استثمارات تخضع لسلطة رئيس الدولة والجهات السيادية، وليست نشاطًا حرًا قائمًا بذاته.
إن وصف الاقتصاد المصري بأنه “اقتصاد مزدوج” فيه تبسيط مخِلّ، لا يراعي طبيعة الاقتصاد الانتقالي، ولا يُنصف الجهود الجارية لضم القطاع غير الرسمي، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، وتحديث الإدارة الاقتصادية برمتها، بل إن حضور الدولة في بعض القطاعات – في هذه المرحلة من البناء – قد يكون ضمانة للاستقرار، وليس علامة على الانغلاق، ما دامت هناك نية صريحة لفتح المساحات أمام القطاع الخاص، كما بيّنت ذلك وثيقة سياسة ملكية الدولة، وخريطة الطروحات الحكومية.
في الفرضية الرابعة:
ذهب الباحث في دراسته إلى الزعم بأن الدولة المصرية تسعى إلى “عسكرة التعليم والإدارة”، في محاولة لصياغة جيل إداري منضبط يخضع للسلطة ولا يمتلك استقلالًا سياسيًا، وهذه القراءة تُعبّر عن تحامل مفاهيمي، يخلط بين الانضباط الإداري اللازم في فترات إعادة البناء، وبين القسر العقائدي المرتبط بالأنظمة الشمولية.
إن إدماج ثقافة الانضباط والمسؤولية في برامج تدريب الكوادر الحكومية – مثل ما يُقدّم في الأكاديمية الوطنية للتدريب أو الأكاديمية العسكرية – لا يعني إطلاقًا عسكرة العقل، بل يمثل محاولة لتحديث الإدارة الحكومية وتحقيق كفاءة الأداء، وهي مقاربة معمول بها في عدد من دول العالم المتقدم.
أما ما يُقال عن “تأميم الطموح السياسي”، فليس سوى إسقاط من سياقات أخرى، إذ أن المجال العام المصري – رغم ما فيه من قيود ظرفية – لم يُغلق الباب أمام التعبير السياسي، بل إن العديد من المبادرات والمنتديات والمشاورات الوطنية قد أُطلقت لمناقشة أولويات المرحلة. 
كما كرّرت الدراسة مزاعم بأن النظام المصري أحكم سيطرته على الفضاء الإعلامي، وفرض سردية واحدة تُمجّد الرئيس والجيش، وتُقصي أي روايات أو أصوات بديلة، وهذه فرضية مبنية على انتقائية منهجية، تتغاضى عن تطورات الواقع الإعلامي وتنوع منابره، كما تغفل الحاجة الموضوعية لأي دولة لإدارة خطابها الوطني في لحظات التأسيس وإعادة البناء، وهنا لابد أن نطرح التوضيحات التالية:
أولًا:
لا يمكن إنكار أن الإعلام المصري خضع لإعادة تنظيم وضبط بعد مرحلة من الانفلات الإعلامي الحاد أعقبت 2011، حين ساد خطاب الفوضى والتشكيك والتخوين والتضليل، وقد جاءت هذه الضوابط في إطار محاولة مهنية لإعادة المعايير الإعلامية إلى طريق المسؤولية الوطنية، وهو أمر تفعله جميع الدول في فترات التحول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها التي شهدت محاكمات وقيودًا على بعض وسائل الإعلام في أوقات الحرب أو الشغب.
ثانيًا:
الحديث عن “احتكار السردية” يُناقض حقيقة وجود مساحات متزايدة للرأي والتحليل والنقد في الإعلام المصري، سواء عبر المقالات الصحفية، أو البرامج الحوارية، أو المنصات الرقمية. بل إن القنوات الخاصة، والمبادرات الإعلامية الجديدة، شهدت تنوعًا نسبيًا في الطرح، مع وجود وجوه تُعبّر عن توجهات فكرية مختلفة، في حدود السياق العام الذي يحكم الإعلام الرسمي والخاص في كل دولة.
ثالثًا:
لم تشر الدراسة إلى خطورة الإعلام المعادي الموجّه من الخارج، والذي يمارس التحريض والتزييف والتأليب اليومي ضد مؤسسات الدولة المصرية، فهل كان يُنتظر من الإعلام الوطني أن يتنازل عن دوره أمام آلة إعلامية مضادة تعمل بلا ضوابط ولا مسؤولية؟ أم أن الموضوعية – من وجهة نظر الباحث – تعني التساهل مع منابر تُهدد وحدة المجتمع باسم حرية التعبير؟
إن الزعم بوجود إعلام أحادي هو قراءة سكونية لحالة إعلامية متحركة، تتفاعل مع تحديات الواقع، وتخضع لتوازنات دقيقة بين المهنية والمسؤولية، وبين الحرية والانضباط، والخلط بين ضبط الأداء الإعلامي وبين “القمع الإعلامي” يُظهر إصرارًا على قراءة النصف الفارغ من الكوب، دون الالتفات إلى مساحات التعبير التي ما زالت فاعلة، خاصة في الصحافة المكتوبة عبر المجال الرقمي.
وتعرضت دراسة يزيد صايغ – على ما فيها من تعبير رصين ومنهج ظاهري – إلى انزلاقات بحثية واضحة، أبرزها غياب التوازن التحليلي، والاعتماد على مصادر انتقائية، والتماهي مع سردية مسبقة تُسقط الواقع المركب لمصر في قوالب جاهزة، لقد تحولت الدراسة من تفكيك علمي إلى توصيف أيديولوجي موجَّه، يتغذى على سرديات المعارضة الخارجية، ويُغفل عن عمد الجهود التنموية والتحولات البنيوية العميقة الجارية في الدولة.
يبدو في النهاية أن أخطر ما في هذه الدراسة – وغيرها من مثيلاتها – هو توظيف أدوات البحث العلمي ومكانة المراكز الدولية لهدم الدول الوطنية من الداخل، عبر تقويض الثقة في مؤسساتها، والنَّيْل من قراراتها السيادية، وبث الإحباط الجمعي تجاه مستقبلها، ولا شك أن صدور هذا النوع من الأوراق من مراكز مثل “كارنيجي” – ومقرها واشنطن – يثير تساؤلات مشروعة حول ازدواجية المعايير: فأين كانت هذه المراكز من فوضى غزو العراق، أو دعم واشنطن لانقلابات عسكرية بدول أخرى، أو صمتها عن قمع شعوب طالبت بحقوقها داخل أمريكا والغرب نفسه؟
وأين هي هذه المؤسسة الداعية للسلام مما يحدث في غزة من إبادة بشرية بدعم أمريكي مفضوح؟ وأين كانت من غطرسة دونالد ترامب وتصرفاته النرجسية التي جسّدت أسوأ مظاهر سوء الحكم وسوء التقدير في مركز صناعة القرار داخل الدولة الأقوى في العالم؟ إن مثل هذه الممارسات تكشف حجم المفارقة بين ما تدّعيه هذه المؤسسات من حياد علمي وموضوعية بحثية، وما تمارسه فعليًا من انتقائية سياسية تخدم أجندات محددة.
إن أخلاقيات البحث العلمي تفرض على الباحث أن يقرأ الواقع في تعقيده لا أن يفتته وفق ما يريده الخطاب السياسي الخارجي، وأن يزن الوقائع بدلًا من تضخيمها في اتجاه واحد، أما مصر، فهي تخوض معركة بناء شاقة، وقد يكون من حق الآخرين نقدها، لكن من الواجب أن يكون النقد موضوعيًا، لا موجهًا من خارج الجغرافيا، ومجتزأ من خارج السياق.
باختصار: الدراسة لم تفسّر الواقع، بل هاجمته، ولم تفكك الظواهر، بل شوَّهتها، ولم تسعَ لفهم مصر، بل لإعادة تعريفها بما يتناسب مع خيال من لا يعيش فيها.
تبقى الحقيقة الأهم التي أغفلتها الدراسة – عمدًا أو جهلًا – هي أن أبلغ ردٍّ على كل ما ورد فيها من افتراضات متهافتة هو الشعب المصري نفسه، الذي أثبت في كل المنعطفات الكبرى وعيًا سياسيًا فطريًا، والتفافًا واضحًا حول قياداته، وفي مقدمتهم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لقد أراد الباحث أن يُسقط الدولة من خلال رسم مشهد مفكك لما بعد السيسي، لكنه نسي أن مصر لم تكن يومًا رهينة لأشخاص، بل أمة صلبة تقودها إرادة شعب، لا خيال باحث مغترب.
إن ادعاء يزيد صايغ بأن الدولة يمكن أن تسقط بعد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي هو ادعاء لا يقرأ التاريخ، ولا يخرج عن باحث يُفترض فيه أن يُحلل الواقع لا أن يتنبأ بانهيارات خيالية، بل لعل المفارقة المؤلمة أن الرجل يكتب كثيرًا، لكنه – كما يبدو – لا يقرأ إلا ما يعزز فرضياته الخاصة، ولا يرى من المشهد المصري إلا ما يتفق مع هوى سياسي معين.
أما مصر، فهي أقدم من التنظيرات، وأرسخ من التقارير، ولا تزال تقف كجدار صلب أمام كل من أراد بها سقوطًا أو تشكيكًا. 
فليكتبوا ما يشاءون، وليغضّوا الطرف عن كل تقدم، فإن الحقيقة الوحيدة التي تُحترم، هي ما تصنعه الشعوب، لا ما تُصدره المراكز.