آسيا داغر: الشجرة العملاقة التي حمت تاريخ السينما العربية

تخيّلوها:
قاعة عرض صامتة في ثلاثينيات القاهرة، الستائر تنسدل، والمصابيح تخفت، وعلى الشاشة الأبيض والأسود، تطلّ امرأة شامخة الملامح، تنطق أولى جمل التاريخ السينمائي العربي…
لم تكن مشهدًا عابرًا، بل بداية حكاية اسمها: آسيا داغر.ليست آسيا داغر مجرّد اسم مرّ في ذاكرة الفن العربي، بل هي قامة راسخة، جذورها ضاربة في تربة الحلم، وأغصانها تظلّل أجيالًا من السينمائيين. هي السيدة التي لم تكن ممثلةً فقط، بل رائدة، ومنتجة، ومؤسسة، وصاحبة رؤية آمنت بأن السينما ليست ترفًا بل رسالة.
(رسالةٌ تستحق أن تُكتب بحروف من ضوء في سجلّ الإبداع العربي.)وُلدت في لبنان، ومع أن ولادتها كانت في قرية تنّورين الجميلة، فإن قدرها كان أن تترك أثرها العميق في قاهرة الثلاثينيات، حيث انتقلت عقب الأحداث السياسية آنذاك برفقة ابنتها ماري كويني.
(ولم تكن ماري مجرد ابنة، بل ستغدو لاحقًا واحدة من أهم الرائدات في مجال المونتاج والإنتاج السينمائي، وهو ما يعكس الامتداد الحيوي لأثر آسيا في الأجيال اللاحقة.)
ما إن وصلت إلى مصر، حتى فتحت لها الحياة أبواب المجد على مصراعيها.دخلت آسيا عالم التمثيل عام 1926 بفيلم “ليلى”، أول فيلم طويل في تاريخ السينما المصرية، من إنتاجها وبطولتها، وكان من إخراج وداد عرفي. لم يكن الإنتاج مجرّد طموح اقتصادي، بل مشروع ثقافي بصبغة نسوية مبكّرة، ففي زمن كان فيه الحضور النسائي في السينما محاصرًا، اختارت أن تقود السفينة بنفسها.
(وكانت تلك القيادة الجريئة بمثابة إعلان صامت عن ولادة زمن جديد للمرأة في الحقل الإبداعي.)أسّست شركة لوتس فيلم، واحدة من أعرق شركات الإنتاج في العالم العربي، وقدّمت من خلالها روائع خالدة، من أبرزها “الناصر صلاح الدين”، الذي أخرجه يوسف شاهين، واعتُبر وقتها من أضخم إنتاجات السينما العربية على الإطلاق. لم تكن آسيا تخشى المجازفة، بل كانت تراهن على الكبار، وتنتصر للفن حتى لو خذلها الربح.آمنت بالمواهب، وكانت حاضنة للنجوم، اكتشفت وأطلقت فاتن حمامة، دعمت يوسف شاهين، ووقفت خلف كثير من النجاحات التي ما كان لها أن ترى النور لولا حنكتها.لم تكن آسيا داغر فقط امرأة في مهنة الرجال، بل كانت صانعة قرار، وأحيانًا صانعة مصائر. شقّت طريقها بالإرادة، وقادت ثورة صامتة في مفاهيم الإنتاج والإبداع النسوي. كانت أول امرأة عربية تنتج وتدير شركة إنتاج، وأول من وظّف السينما في خدمة التاريخ العربي دون أن تفقد بعدها الإنساني.لقد كانت آسيا داغر أكثر من مجرّد امرأة سبقت عصرها، كانت نبضًا سابقًا للسينما حين كانت لا تزال تتلمّس خطاها، وكانت العقل الذي خطّط، والقلب الذي آمن، واليد التي امتدت لترفع غيرها.
(وترفع معها جيلًا كاملًا من الحالمين والحالمات الذين وجدوا في ظلّها حضنًا داعمًا ومساحة للإيمان.)
لم تكن تصنع الأفلام فقط، بل كانت تصنع التاريخ، وتكتبه بعدسةٍ لا تعرف إلا الجمال والحقّ والجرأة.رحلت آسيا عن الدنيا، لكن ظلّها لا يزال يمرّ في كادرات الأفلام الكلاسيكية، في ملامح النجوم الذين احتضنتهم، وفي كل حلم نسائي شجاع وُلد من رحم المستحيل.
هي آسيا داغر… سيّدة صنعت مجدًا، فصار المجد يحاكي اسمها.في زمنٍ تتسابق فيه المنصات، وتتشوّه فيه المعايير، يظل اسم آسيا داغر كالشعلة الهادئة:
لا تَصرُخ، لكنها تضيء.
(تضيء بلا ادّعاء، وتمنحنا يقينًا بأن الفن الخالص لا يموت.)
تذكّرنا أن السينما ليست تجارة فقط، بل موقف، ورؤية، ورسالة امرأة عرفت أن المجد يُصنع بالكاميرا كما يُصنع بالقلب.