مصر والدول العظمى: سبعة عقود من التوتر والصراع

منذ منتصف القرن العشرين، دخلت مصر مرحلة جديدة من الصراع مع القوى الكبرى، لم يكن عسكريًا فقط، بل كان اقتصاديًا وسياسيًا ونفسيًا، دارت رحاه حول الاستقلال الوطني، وقرار بناء مشروع مصري خالص في محيطٍ مضطرب، ورغم تغير الأنظمة الدولية وتبدل التحالفات، فإن مصر واجهت في كل عقد شكلًا من أشكال الحصار أو الضغط،ورغم ما واجهته من عقوبات وتجميد وتحريض وديون، استطاعت في كل مرة أن تخرج – بخسائر أو بدون–واقفة على قدميها، وإن كانت مثقلة بالجراح، لكنها أبدًا لم تُهزم، فحافظت على كيانها وقرارها الوطني.هذا يجعلنا نحلل ونراجع: كيف واجهت مصر الحصار عبر العقود، وما هي مقومات هذا الصمود؟
أولًا: عبد الناصر وبداية الصدام (1954–1970)
بعد ثورة يوليو عام 1952، قررت مصر تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر تبني سياسة عدم الانحياز، والخروج من دائرة النفوذ الغربي، فبدأ مشروع تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، والإصلاح الزراعي، والتصنيع الثقيل،وهذه القرارات اصطدمت مباشرة بمصالح بريطانيا، فرنسا، والولايات المتحدة، بعد أن تأكد أن مصر تبني مشروعا وطنيا ضد المصالح الغربية.مع بزوغ مشروع جمال عبد الناصر القومي، اصطدمت مصر بمصالح قوى كبرى،حيث بدأت المواجهةبتأميم قناة السويس عام 1956، مما دفع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى العدوان الثلاثي،وردّت مصر على هذا الاعتداء بتحرك دبلوماسي عالمي، وأسقطت العدوان سياسيًا، في أول اختبار للقيادة الجديدة، وفي ذات العام، أوقف البنك الدولي تمويل السد العالي، استجابة لضغط أمريكي-بريطاني،وكان هذا أول حصار اقتصادي حقيقي تتعرض له مصر الحديثة بعد إعلان الجمهورية الأولى عقب ثورة عام 1952، وبدلًا من التراجع، لجأت مصر إلى وسائل مختلفة لمواجهة الحصار السياسي والاقتصادي ومنها التحالف مع الاتحاد السوفيتي لتمويل المشروع، والتعبئة جماهيرية الداخلية خلف فكرة “الكرامة الوطنية”، وخلق رمزية عالمية لعبد الناصر كقائد للتحرر في العالم الثالث، ومن هنا بدأت حقبة من الاستقلال السياسي المصحوب بالتقشف الاقتصادي.
ثانيًا: ما بعد 1973… السادات بين الحرب والتوازن (1970–1981)
حرب أكتوبر 1973 قلبت ميزان القوة في المنطقة،وأعادت الاعتبار للجيش المصري، لكنها أيضًا وضعت مصر في مواجهة مع واقع اقتصادي منهك، فقد خاضت مصر واحدة من أنجح حروبها الحديثة، لكن تكلفة الحربوعواقبهاخلقت ضغوطا غربية والتي فرضت شروطا قاسية للمساعدات بعد الحرب، ثم جاءت زيارة الرئيس السادات عام 1977،وبعدها توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979والتي أعقبها المقاطعة العربية الكاملة (سياسية واقتصادية)، مما فرض على مصر عزلة وحصارا عربيا، وهنا ظهر الوجه الثاني للمواجهة من ناحية البدء في سياسة الانفتاح الاقتصادي كبديل عن سياسة الاشتراكية، ثم التحول نحو الغرب والولايات المتحدة كمصدر دعم استراتيجي، وبدأت المساعدات الأمريكية تتدفق، وتجاوزت 85 مليار دولار حتى 2025، لكن ذلك لم يكن دون ثمن، إذ دخلت مصر في علاقة شراكة محدودة المشروطية مع واشنطن، وسارت على حبل دقيق بين السيادة والتبعية.
ثالثًا: مبارك والاستقرار مقابل الجمود (1981–2011)
اعتمد نظام الرئيس حسني مبارك على ثلاثية: السلام، الشراكة مع الغرب، ومكافحة الإرهاب، وواجهت مصر ضغوطًاسياسية مع كل توتر إقليمي (العراق، فلسطين، السودان)، بالإضافة إلى ضغوط من المؤسسات الدولية نتيجة الديون الخارجية المتراكمة، وإملاءات صندوق النقد والبنك الدولي، فبدأ برنامج الخصخصة والدخول في قروض جديدة، حتى عام 2010، إذ بلغ الدين الخارجي نحو 35 مليار دولار، لكن الاقتصاد ظل هشًا، يعتمد على السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، مع بطء في تطوير الصناعة والزراعة، واعتمدت سياسة الرئيس حسني مبارك على الحفاظ الحفاظ على تحالف استراتيجي مع واشنطن، ولعب دور الوسيط الإقليمي لتثبيت شرعية النظام، ومحاولة مقاومة تخوفات “الانفجار الداخلي” بإصلاحات محدودة ومدروسة.
رابعًا: بعد 30 يونيو عام 2013: استقلال القرار ومواجهة حصار جديد
واجهت مصر حملة مقاطعة غير رسمية من قوى غربية ومنظمات دولية، وضغط إعلامي كثيف، عقب تصنيف ثورة 30 يونيو باعتبارها “انقلابًا” على غير حقيقة ما قررته الإرادة الشعبية، مما أدى لتجميد جزئي للمساعدات الأمريكية ووقف تسليم السلاح أو تعليقه،والتهديد بوقف المعونة والصفقات العسكرية، بالإضافة إلى ضغط من لوبيات إعلامية ومنظمات حقوقية دولية،لكن الرد المصري جاء مختلفًا هذه المرة معبرا عن استقلال القرار الوطني المصري، حيث اتجهت القيادة السياسية إلى تنويع مصادر السلاح (فرنسا، روسيا، ألمانيا)، وتدشين مشروعات قومية كبرى منها قناة السويس الجديدة، والتوسع في البنية التحتية للطرق، والعاصمة الإدارية الجديدة وغير ذلك من المشروعات القومية العملاقة بهدف تأهيل مصر للدخول في عصر جديد للصناعة والزراعة والتجارة، ثم قامت الدولة المصرية بتقوية علاقاتها مع دول الخليج العربي والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي.وقد أدت كل هذه الظروف السياسية الصعبة إلى خلق تعثرات اقتصادية زاد من حدتها كارثة وباء كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، ثم فيما بعد الحرب على غزة وتضرر الإيرادات الخاصة بقناة السويس، ونتيجة لذلك ارتفع الدين الخارجي إلى 165 مليار دولار في 2022، مقارنة بـ 46 مليار فقط في 2013، ثم وصول معدل التضخم إلى معدلات مقلقة، وبلغ سعر صرف الدولار 50 جنيهًا، نتيجة الضغوط على الاحتياطي الأجنبي.لكن السؤال الهام: لماذا لم تسقط مصر، وما سر هذه المناعة؟رغم الحصار المتكرر، والصدمات الاقتصادية والسياسية، بقيت مصر واقفة صامدة، فالموقع الجيوسياسي الفريدو قناة السويس التي تتحكم في تجارة العالم، والساحل الطويل على البحرين، وجوار مضطرب يمنح مصر موقعًا لا يمكن تجاهله، وما يعكسه ذلك من أهمية مصر في الأمن الإقليمي للمتوسط والشرق الأوسط، بالإضافة إلى القوة السكانية لأكثر من 116 ملايين نسمة، وهم يمثلون سوقًا محلية ضخمة، وقوة عمل كامنة،وقاعدة بشرية تُمكّن الدولة من الاستغناء النسبي عن التبعية، وجبهة داخلية وطنية لها تاريخ طويل في عمق الحضارة البشرية في النضال ومواجهة المستعمر وغطرسة القوى العظمى وما يمثله ذلك منالذاكرة الوطنية المقاومة لشعب عانى الاحتلال، وجرب الاستعمار، وذاق الانكسار، لكنه يعرف متى يقف، ومتى يتحرك، فالشعب المصري يحمل خبرة تاريخية طويلة في التعامل مع الأزمات، ويمتلك الوعي الشعبي بمفهوم “السيادة”.وقطعا يأتي الجيش الوطني المستقل في مقدمة أسباب الصمود والمناعة الوطنية والحفاظ على تماسك الدولة، فهو أحد أكبر الجيوش في العالم من حيث العدد والبنية المؤسسية، وما زالت القوات المسلحة المؤسسة الوحيدة التي لم تُخترق أو تُخصخص، وظلت ضامنًا للوحدة والسيادة.يجب أيضا أن نقدر المرونة الدبلوماسية التي يتمتع بها الرئيس عبد الفتاح السيسيوالتي تعكس حنكة القائد وقدرته على إدارة السفينة وسط تقلبات الأمواج العاتية، فقد حافظ على الانتقال بمصر إلى مرحلة التحالفات الاستراتيجية المدروسة وتنويع مصادر الدعم دون الوقوع في التبعية أو الانتقاص من استقلال القرار المصري، والتمسك بسياسة عدم الارتهان الكامل لأي قوة عظمى، وهذا يفسر بوضوح الموقف الحالي للإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب ضد مصر ورئيسها بعد رفضه للإملاءات الأمريكية المجحفة مهما كانت الخسائر المتوقعة.لم تكن مصر يومًا دولة سهلة الكسر، ولا شعبها سهل الإخضاع، فالمحن التي مرت بها لم تنجح يومًا في دفعها لتغيير مسارها بما يخالف إرادتها الوطنية، وخلال سبعين عامًا، واجهت مصر سلسلة من الضغوط والحصارات، لكنها لم تسقط،وربما دفعت أثمانًا، وربما اضطرت لتكتيكات مرنة، لكنها احتفظت بجوهر استقلالها، وأثبتت أن القرار المصري عصيٌّ على المصادرة الكاملة، واليوم وبينما يٌعاد رسم خرائط النفوذ الدولي، فإن مصر تقف – بخبرتها وموقعها وثقلها-لا لتنتظر المعونة، بل لتُعيد تعريف دورها، لا كمفعول به، بل كفاعل أصيل في توازنات العالم، وفي ظل ما تواجهه البلاد اليوم من تحديات اقتصادية وضغوط خارجية، فإننا نؤكد أن الخروج ليس فقط ممكنًا، بل واردًا ووشيكًا، متى ما وُجد التصميم والإرادة وتعاون الجميع.ولعل الأمل الأكبر ليس في المعونة ولا في المعجزات، بل في الإنسان المصري حين يثق في دولته، ويؤمن أن المستقبل ليس نسخة من الماضي، بل صفحة جديدة تصنعها أيدينا.مصر- كما علّمنا التاريخ- لا تُحاصر طويلًا، لأنها ببساطة لا تسير إلا للأمام.