من المعتزلة إلى ابن تيمية والشعراوي: الكوارث الطبيعية ليست عقابًا إلهيًا

من المعتزلة إلى ابن تيمية والشعراوي: الكوارث الطبيعية ليست عقابًا إلهيًا

بينما يتنافس العلماء لفهم أسرار الطبيعة وكشف خبايا الزلازل والأعاصير والفيضانات، لمواجهتها والحد من آثارها، لا يزال البعض لدينا يتمسك بتفسيرات خرافية أسطورية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ!، حيث كان الإنسان البدائي يفسر الرعد والبرق والزلازل والأعاصير على أنها تعبير عن غضب الآلهة.
المفارقة أنه لا تزال بعض العقول المعاصرة تفسر الكوارث الطبيعية بنفس التفسيرات الأسطورية باعتبارها “غضب إلهي” لمن خالف توجهاتهم السياسية أو الدينية، في حين عندما تحل المصيبة بساحتهم، لا يرون فيها غضبًا إلهيًا بل “ابتلاء”، فتُبدّل المعايير، وكأن العدل الإلهي يخضع لمزاج المفسّر لتبرير العجز عن فهم ظواهر الطبيعية، في مفارقة عجيبة تجمع بين المتناقضات!؛ فمرة “النار ما تصبش مؤمن” ومرة أخرى “المؤمن مصاب”.
لا ننسى هنا تكرار هذا المشهد بوضوح حين ظهر فيروس كورونا لأول مرة واعتبره عديدون غضبًا وعقابًا من الله ضد الصين بسبب “اضطهادها لمسلمي الإيغور”. في حين أن كورونا لم يستثن بلاد المسلمين، فبحثوا عن تفسير جديد!.
المؤسف أن هؤلاء يستندون إلى تفسيرات لا عقلانية لآيات قرآنية وُضعت في سياق تاريخي خاص، محاولين إسقاطها على واقع معاصر مختلف تمامًا لتفسير أي كارثة طبيعية،. من ذلك الاستشهاد المتكرر بآية: “وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا”، أو أحاديث مثل ما نسب إلي علي بن أبي طالب، أنه قال: “ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة”.
لا شك تمتلئ كتب التراث بتفسيرات من هذا النوع، منها أحاديث منسوبة للنبي في مسند أحمد، عن أم سلمة أنها سمعت النبي، يقول: “إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِى فِى أُمَّتِى عَمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ. قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ؟ قَالَ: يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ”.
في حين أن العديد من المفسرين يؤكدون أن هذه الآيات والأحاديث محصورة بأمم سابقة، وأن العقاب والغضب والتدخل الإلهي المباشر في الكون انتهى برسالة النبي محمد، وفقًا لآية: “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ”. فقد أشاروا إلى أن ما يُعرف في كتب التراث الإسلامي بـ”عذاب الاستئصال” – أي الهلاك الجماعي لقوم من أقوام الأنبياء السابقين على النبي محمد – قد انقضى وانتهى.
هذا ما ذهب إليه العديد من رجال الدين الأصوليين التقليديين في مختلف المذاهب، بل ويرى العديد منهم أن فكرة العقاب الإلهي العام للشعوب بالكوارث الطبيعية تتعارض مع مفهوم العدل الإلهي، الذي لا يستقيم مع معاقبة الأبرياء على جرائم لم يرتكبوها. وقد استندوا أيضًا إلى حديث نبوي يقول: “إني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، فأعطانيها”. 
لم يذهب هؤلاء إلى أن التدخل الإلهي المباشر في الكون لم يتوقف فقط مع بعثة النبي محمد، بل توقف منذ نزول التوراة، وفقًا لحديث نبوي ذكره الحاكم في المستدرك، يقول: “مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا، وَلَا قَرْنًا، وَلَا أُمَّةً، وَلَا أَهْلَ قَرْيَةٍ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ”.
الأكثر إثارة أن هذا ما أيده الشيخ الشعراوي وابن تيمية والمعتزلة على اختلاف مرجعياتهم وتوجهاتهم!؛ إذ أكد الشعراوي في تفسيره لآية 43 من سورة القصص، أن “عذاب الاستئصال انتهى بنزول التوراة”. كما أشار ابن تيمية في كتابه “الجواب الصحيح” إلى أنه “بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار”. وبغض النظر على تطرف ابن تيمية في استبدال فكرة العقاب الإلهي بالعقاب البشري تحت مسمى الجهاد، فالثابت أنه من المؤمنين بانتهاء فكرة عذاب الاستئصال، مثله في ذلك مثل المعتزلة الذين عُرفوا بمنهجهم العقلي الأكثر اتزانًا!؛ إذ يرفض المعتزلة فكرة التدخل الإلهي المباشر في العالم عموما، مؤكدين أن العالم تحكمه قوانين طبيعية، كما قال القاضي عبد الجبار: “أحداث الطبيعة تحدث عن أسباب وليست عن فعل إلهي مبتدأ”. ليس هذا فقط، بل ذكر الشهرستاني أن الجاحظ “كان يقول بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالا مخصصة بها”.
تلتقي هذه الرؤى المتباعدة – من المعتزلة مرورا بابن تيمية وصولًا للشعراوي – في نقطة واحدة: وهي أن الكوارث الطبيعية ليست تعبيرًا عن غضب من السماء، بل نتيجة لقوانين محكمة تسري على الجميع، مؤمنهم وكافرهم، عادلهم وظالمهم. وهنا تتجلّى العدالة الإلهية الحقيقية، التي لا تعاقب بريئًا بذنب غيره، ولا تغضب وفق مقاييس الهوى.
أما الخطر الحقيقي، فليس في الزلزال ولا في الوباء، بل في عقول تصر على اختزال العالم بمنظار أسطوري، تُفسر به كل عاصفة وتُعلّق عليه كل نكبة، لتظل في مأمن من مسؤولية فهم ظواهر الطبيعة لمواجهتها.