إحياء ذكرى “العائلة الصابرة”

إحياء ذكرى “العائلة الصابرة”

أراد الله تعالى أن يخلد ذكرى الأسرة الصابرة المحتسبة التى تكونت من نبى الله إبراهيم وزوجته هاجر وولدهما النبى إسماعيل. الأسرة التى سما كل أفرادها على أحزانهم ومعاناتهم واستسلموا لأمر الله تعالى حين قضت مشيئته بأن يذبح الأب ولده بيديه، قطع الشيطان طريقهم جميعًا فتربص بالأب وسأله كيف يذبح ابنه من أجل رؤيا رآها فى منام، وقطع طريق إسماعيل وسأله: كيف يستسلم لسكين أبيه المدفوع برؤيا منامية، وفعل الأمر نفسه مع الأم التى عاشت ابتلاءات شتى منذ أن تزوجها إبراهيم، فوجدته يتركها وصغيرها «إسماعيل» فى أرض جرداء لا زرع فيها ولا ماء تنفيذًا لأمر سماوى صدر إليه بذلك: «ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون». تحملت السيدة الصابرة ووليدها الصغير محنة الوحدة وشح الطعام والثمرات، والأدهى شح الماء، ما أكثر ما حسبت السراب ماءً فهرولت إليه يحدوها الأمل فى قطرة ماءً فى تلك الصحراء الجرداء، حتى إذا أتته لم تجده شيئًا ووجدت عنده المزيد من العطش.كل هذا تحملته فى صبر وجلد حتى منّ الله تعالى عليها وعلى وليدها واستجاب لدعوة نبيه إبراهيم ففجر الأرض من تحت أقدام وليدها ماءً عذبًا زلالًا، ورزقها من الثمرات، ودفع إليها من البشر من عاشت آمنة بينهم، لكنها لم تكد تشعر بشىء من الاستقرار حتى باغتها هذا البلاء الذى لا يحتمله قلب أم، وكيف لأم أن تتحمل أن يذبح وحيدها على يد أبيه، بأمر من السماء، لا سبيل أمام أسرة مؤمنة على رأسها تاج النبوة إلا أن تطيعه؟مثّلت رحلة الحج إلى البيت الحرام، الذى رفع الأب إبراهيم وولده إسماعيل قواعده، أعظم تخليد لذكرى هذه الأسرة. وقد جاءت المكافأة للأسرة الصابرة فورية بمجرد انتهاء إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت. يروى «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ»: «فلمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن فى الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتى؟ قال: أذّنْ وعلىّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض، وما فى أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق فى علم الله أن يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيّك لبيك». وقد تواصل الحج منذ عهد إبراهيم عليه السلام وحتى ميلاد محمد- صلى الله عليه وسلم- فقد كان عرب الجاهلية يحجون إلى البيت الحرام، واكتسبت مكة الكثير من قيمتها ومكانتها من وجود البيت الحرام بها، ولعلك تذكر أن «أبرهة» الحبشى حاول تدمير هذه القيمة والمكانة ذات يوم فاتجه إلى البيت الحرام يريد هدمه لكن الله تعالى زاد عن حرمه الشريف. وقد تقرر الحج كعبادة على المسلمين بعد بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم، وارتكنت إلى العديد من المشاعر الإبراهيمية، مثل الوقوف بعرفات والإفاضة والسعى، وتحررت من بعض العادات غير الإبراهيمية التى اخترعها عرب الجاهلية، مثل الطواف عراة، ومثل المكاء والتصدية «الصفير والتصفيق أثناء الطواف». ومن اللافت أن الحجة التى حجها أبوبكر بالمسلمين سنة ٩ هجرية ضمت المسلمين بطقوس الحج الإبراهيمية الحقة، وأيضًا بعض عرب الجاهلية بطقوس الحج المشوهة الموروثة عن أجدادهم. يقول «ابن الأثير»: «فسار أبوبكر أميرًا على الموسم، فأقام الناس الحج وحجت العرب الكفار على عادتهم فى الجاهلية، وعلى يؤذن ببراءة، فنادى يوم الأضحى: لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد فأجله إلى مدته فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، ورجع المشركون، فلام بعضهم بعضًا وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا». كانت سنة ٩ هجرية هى آخر سنة حضر فيها المشركون الحج بطقوسهم القديمة، وتم إبعادهم بعد ذلك عن البيت، ولم يعد يسمح بالحج إلا على طقوس الإسلام الإبراهيمية الأصيلة.وقد حج النبى- صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين فى العام التالى «سنة ١٠ هجرية»، فأراهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطبته التى بين فيها للناس ما بين، وكان الذى يبلغ عنه بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف لكثرة الناس، وفيها قرر النبى أن الحج لا يكون إلا فى شهر ذى الحجة، وأن الوقوف بعرفات لا يكون إلا يوم ٩ ذى الحجة. وقال صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع: «أيها الناس (إنَّمَا النَّسىءُ زِيَادَةٌ فى الكُفْرِ) وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، و(إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)». لقد أعاد النبى طقوس الحج إلى الصيغة الإبراهيمية الكاملة، فألغى النسىء وتحديد موسم الحج تبعًا لرغبات العرب، وفى الشهر الذى يرونه ملائمًا لهم على مستوى الطقس وعلى مستوى المواسم التجارية. يقول «ابن الأثير»: «وكانت حجة الوداع وحجة البلاغ، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحج بعدها، وأرى الناس مناسكهم وعلمهم حجتهم».ستظل عبادة الحج ومشاعره وطقوسه المقدسة باقية إلى يوم القيامة لتحيى الذكرى الخالدة للأسرة الصابرة المؤمنة بأقدار الله، أسرة الخليل إبراهيم زوجته هاجر وولده إسماعيل.