كارمن.. السيدة التي رفضت وقالت «لا»

«أنا لا أُروّض. لا أُحب إلا من يفتح لى باب الهروب»، تلك هى «كارمن» الغجرية التى لم تعتذر يومًا عن نزقها، ولم تتراجع أمام سلطة رجل، ولم تطلب الغفران على حياتها المفتوحة كجرح فى وجه المدينة، المدينة التى لفظتها ووصمتها بكونها غجرية وبكونها فتاة فقيرة تعمل فى مصنع من أجل قروش قليلة.هكذا رأيت «كارمن» فى مسرح الطليعة، المأخوذ عن نص بروسبير ميريميه، وعالجه دراميًا محمد على إبراهيم ليقدمه المخرج ناصر عبدالمنعم على خشبته الأثيرة «خشبة مسرح الطليعة».رأيت «كارمن» تخترق الحدود بجسدها وكلماتها، وترقص على المساحة الفاصلة بين المتعة والعار، بين الغواية والعقاب، رغم ذلك ظل سؤال يؤرقنى على مدار العرض: هل كارمن كما رأيناها على الخشبة امرأة حرة؟ أم أن شبح «العاهرة» سيظل يطاردها حتى موتها؟ حرة أم عاهرة؟
«كارمن» فى هذا العرض ليست امرأة تغوى لمجرد الإغواء، بل كيان لا يعترف بالأسيجة. تختار الرجل الذى تريده، ثم تمضى دون أن تنظر خلفها. تحب كما تتنفس، وتكره كما تغنى، وترقص كأنها تنفض عن نفسها رمادًا اجتماعيًا أثقل كاهلها طويلًا.
وتؤدى ريم أحمد الشخصية باقتدار لافت؛ فصوتها، نظراتها، خطواتها، كلها أدوات تمرد، تجسد امرأة تعيش كما تشتهى، لا كما يُراد لها أن تكون، لا تعترف بنموذج المرأة اللائقة اجتماعيًا. وتعرف أنها فى المقابل ستواجه رفضًا ووصمًا اجتماعيًا، إلا أن المجتمع برمته لا يعنيها ولا تنتمى إليه.
أما دون خوسيه، العسكرى العاشق، فيمثل الرجل الذى أراد أن «يملك» امرأة تستعصى على الامتلاك، فهى لا تريد أن تملك ولا تريد لأحد أن يملكها، فصار قاتلها دون أن يدرى أنه يقتل عجزه، لا جسدها، ويختار العرض أن يبدأ من لحظة النهاية: لحظة طعن «خوسيه» لـ«كارمن» بعد أن علم بعلاقتها بمصارع ثيران. وبإخفائها أمر زوجها الغجرى.
أن يبدأ العرض من تلك اللحظة الفاصلة هو أمر لا يتعلق بالبنية الدائرية، بقدر ما يعمد إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الحب والقتل، بين الغيرة والذنب، وبين المرأة كاختيار والمرأة كملكية، فـ«كارمن» لا تموت لأنها «خائنة»، بل لأنها قررت ألا تنتمى لأحد، وهنا تكمن المأساة، حيث تستدعى تلك اللحظة روايات متعددة لفتيات قتلن لأنهن قلن لا فى وجه قاتلهن، مع اختلاف الدوافع والأسباب والخلفيات الثقافية ومساحات الحرية النسبية تمامًا.
وتضافرت كل عناصر العرض لتحقيق انتقال مرن بين اللحظات الدرامية المتتابعة والمتنوعة فى المكان والزمان والحالة الشعورية.
والديكور من تصميم أحمد شربى كان مرنًا، قابلًا لإعادة التشكيل وقد تغير أمام أعيننا من الساحة إلى السجن، من الحانة إلى حلبة المصارعة، وكانت تلك التغيرات فى معظمها تتبع لخطوات كارمن، التى لا تكف عن التنقل، ولا تحدها جدران، ولا أبواب تُغلق فى وجهها، فالمكان، مثلها دائم التحرك، وساعدت الإضاءة لمصممها أبوبكر شريف، كذلك فى إعطاء عمق إضافى للمكان والشخصيات، وتبدلت بنفس مرونة الديكور.
كما جاءت الأزياء لـ«شربى» أيضًا لتقدم خطابًا بصريًا يرتكز على الجسد ودلالاته، فـ«كارمن» ترتدى الأحمر، لون الإغواء، التفاحة الحمراء ترقص بملابسها متعددة الطبقات، لكنها لا تسمح لأحد بأن يقضمها، ملابس زاهية الألوان وجريئة، إلا حين تختار هى ذلك، فى المقابل، بدا دون خوسيه كأنه خرج من زمن آخر، زيّه العسكرى ثقيل، جامد، لا يليق بعالم «كارمن»، لذا كانت مهمة كارمن الحقيقية هى أن تخلصه من عبء هذا الزى الذى يثقل كاهله.
أما الرقص، تصميم: سالى أحمد، فقد كان لغة تمرد ولم يكن لغرض الاستعراض أو الترفيه، بل جاء كامتداد حيوى لحركة كارمن النفسية والجسدية، فهى تدب بقدمها الأرض برقصة الفلامنكو الإسبانية، لتعلن عن وجودها، وتعبر عن نفسها كجسد وثقافة متحررة من الأصل، والهوية، والحدود.
والموسيقى التى أعدها حازم الكفراوى استخدمت «أوبرا كارمن» وموسيقى «بحيرة البجع»، لـ«تشايكوفسكى» وغيرها من المقطوعات، بما فيها تلك التى مزجت إيقاعات الفلامنكو بمقامات شرقية.
وغنّت قارئة التاروت، والتى لعبت دورها الممثلة ليديا سليمان، كصوت قادم من السماء، يحذر وينوح على ما حدث ويحدث دومًا، قتل امرأة لأنها لم تُطأطئ الرأس.
هل المسرح يُدين أم يُعرّى؟
رغم انشغال العين بجماليات العرض من أزياء وحركة وموسيقى، لا ينجو المتلقى من السؤال الأهم: هل تواطأنا مع دون خوسيه؟ هل تمنّينا- فى لاوعينا- أن تخضع كارمن ولو مرة؟ هل رأينا فيها «بطلة»، أم ظللنا نُطِل من نوافذ العرض على «المرأة الفاتنة» فحسب؟ العرض لا يمنح إجابات، بل يوسّع الجرح، يذكّرنا بأن المرأة حين تختار، تُحاكم، وحين ترفض، تُقتل.
وختامًا: امرأة تقول لا مثل «كارمن» ليست شخصية من أدب أوروبى كلاسيكى، بل هى امرأة معاصرة، تسير على حافة سكين فى مجتمع لا يغفر للأنثى حريتها.