عندما تُخطئ الإيكونوميست في تحليل مصر

نشرت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية في عددها الأخير تقريرًا بعنوان “الخاسرون في الشرق الأوسط الجديد”، تناولت فيه ما وصفته بتحوّل ميزان القوى في المنطقة، واعتبرت أن دولًا كانت في مركز التأثير باتت اليوم على الهامش، ولم تعد في مركز الفعل الإقليمي، وعلى رأس هؤلاء، حسب تعبيرها، تأتي مصر تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي صوّرته المجلة كأكبر الخاسرين في الشرق الأوسط الجديد، وتراجعت بلاده إلى خانة “المتفرجين”، وبنت المجلة استنتاجاتها على تحليلات سياسية سطحية ومؤشرات اقتصادية منتقاة بعناية، لتقدم صورة مختزلة لا تنسجم مع الواقع ولا تعكس المسارات الفعلية لتي تسلكها الدولة المصرية منذ 2014.تقرير “الإيكونوميست” الذي كُتب بلغة تحليلية جزئية، يحتاج إلى قراءة نقدية هادئة ومنهجية، تراعي التوازن بين الوقائع والمفاهيم، وتٌعيد تقييم الادعاءات من منظور علمي يستند إلى معطيات أكثر شمولًا ودقة.هذا المقال لا يسعى إلى تبرير أو مجادلة إعلامية، بل إلى تقديم تفكيك علمي هادئ لهذا الطرح، اعتمادًا على أدوات التحليل السياسي والاقتصادي، مع الاستناد إلى الأرقام والمقارنات الدولية، لكشف حجم التحيز في التقرير، والتأكيد على أن مصر ليست فقط حاضرة، بل تؤسس – وسط مخاض إقليمي وعالمي – لموقع يجعلها ضمن القوى الصاعدة في النظام الدولي، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يٌعد – بشهادات دولية ضمنية وصريحة – أحد أكثر الزعماء ثباتًا واستقلالية وتأثيرًا في الشرق الأوسط الجديد.أولا: الدلالة العلمية لعنوان التقرير: من المهم التوقف عند عنوان تقرير الإيكونوميست ذاته: “الخاسرون في الشرق الأوسط الجديد”، إذ يقوم هذا العنوان على فرضية غير محققة علميًا، وهي أن “الشرق الأوسط الجديد” كيان محدد المعالم، تم التوافق عليه، أو اعتماده من قبل الفاعلين الحقيقيين في المنطقة، والسؤال الجوهري: من قرر شكل هذا الشرق الأوسط؟ ومن خطط له؟ ومن أعلنه؟ الحقيقة أن ما تصفه المجلة بـ “الشرق الأوسط الجديد” هو بالأساس تصور غربي الطابع، تحكمه رؤى استراتيجية تُصاغ غالبًا في مراكز أبحاث أمريكية أو أوروبية، وليس في عواصم الشرق الأوسط نفسه.إن بناء تقرير كامل على افتراض غير متفق عليه بين دول المنطقة، يُعد إخلالًا منهجيًا صارخًا، فالدول لا تُقاس أدوارها ضمن سياقات مفروضة من الخارج، بل ضمن ما ترسمه هي من أولويات داخلية وخارجية، وهو ما ينطبق بوضوح على مصر، فالدولة المصرية لم تكن طرفًا في رسم “شرق أوسط جديد” بصياغات غير واضحة، بل هي بما تملكه من قوة بشرية (نحو116 ملايين نسمة)، وجيش يُصنف ضمن أقوى الجيوش في العالم، وموقع جيوسياسي فريد، وحضارة تمتد لأكثر من 7 آلاف عام، تملك من أدوات التأثير ما يجعلها شريكًا في صناعة المشهد، لا تابعًا له، وبالتالي، فإن الحديث عن “خسارة” في معركة لم تُحدّد أطرافها ولا قواعدها، يُعد خفة في التقدير السياسي، ويكشف أن عنوان التقرير، رغم جاذبيته الصحفية، يفتقر إلى الدقة الأكاديمية والحياد المعرفي الذي يُفترض أن يٌميز مجلة ذات طابع اقتصادي واستراتيجي مثل الإيكونوميست.ثانيا: مقاربة تحليلية اختزالية:أبرز إشكالية في تقرير المجلة تتمثل في اعتماده على منطق “الخاسر والرابح” كمعيار لقراءة التوازنات في الشرق الأوسط، وهو منطق اقتصادي سطحي يُسقط على السياسة تعبيرات تنتمي إلى عالم الأسواق، ويتجاهل البُعد المركب للعلاقات الدولية، التي تقوم على المصالح المتغيرة، والرهانات المتداخلة، والخصوصيات الوطنية، فهل تُقاس المكانة الإقليمية بعدد اللقاءات أو الدعوات البروتوكولية؟ وهل الحضور الجيوسياسي مرادف دائمًا للظهور الإعلامي؟ إن هذا النوع من المقارنات يفترض أن التحالفات الظرفية هي مؤشر القوة الوحيد، وهو أمر لا يصمد أمام أي اختبار علمي جاد.ثالثا: الحضور الإقليمي بين الرمزية والتأثير:تشير المجلة إلى غياب مصر عن قمة ترامب وقادة الخليج العربي، وحضورها في قمة عربية ببغداد حضرها خمسة رؤساء فقط، بينما اكتفى معظم الأعضاء بإيفاد مندوبين،على أنها علامات على التراجع، لكن هذا تحليل يُفضّل الشكل على الجوهر، فمصر، بحكم ثقلها التاريخي والجغرافي، لا تحتاج إلى أن تُثبت حضورها ببطاقات الدعوة، بل بقدرتها على التأثير في الملفات الأكثر تعقيدًا في الإقليم.أما الاستشهاد بحضور الرئيس المصري لقمة بغداد، التي اقتصر تمثيل معظم الدول فيها على مستوى المندوبين، كدليل على “تراجع دور مصر”، فهو تعليل مجتزأ يخلو من الإنصاف، فمصر لم تكن الدولة المنظمة لهذه القمة، ولم تكن صاحبة الدعوة إليها، وبالتالي فإن مستوى الحضور لا يعكس موقعها، بل يعكس – في جوهره – تراجعًا في التزام بعض الأنظمة العربية بالموقف العربي الجماعي، لا سيما في لحظة إقليمية تستدعي التضامن لا التنازع، بل إن مشاركة مصر على أعلى مستوى، رغم ضعف التمثيل من بعض الأطراف، هو في حد ذاته دليل على ثبات الموقف المصري الذي يرى أن الحضور العربي يجب ألا يُقاس بكمّ المدعوين، بل بقيمة المواقف، لقد اختارت القاهرة أن تكون في قلب الحدث العربي، حتى لو غاب عنه بعض الأشقاء، إيمانًا منها بأن حماية الإجماع العربي واجب لا يخضع لحسابات موسمية أو اصطفافات آنية.ومن المخجل – أخلاقيًا وتاريخيًا – أن يُنظر إلى غياب البعض عن قمة عربية بوصفه “حكمة سياسية”، بينما يُنتقد الحاضرون بصفتهم “متفرجين”، إن هذا التصور لا يوصف إلا بأنه منطق مقلوب، ثم إن التاريخ لن يغفر – كما لن ينسى – أولئك الذين آثروا التماهي مع السياسات الأمريكية المتغطرسة، في لحظة كانت فيها الأمة بحاجة لصوتٍ واحد يرفض العدوان، ويدافع عن قضاياها المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.وعلى خلاف ما ورد في التقرير، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يقف على الهامش، بل في قلب الحدث الإقليمي، مشاركاته المتعددة في القمم العربية، والقمم الثلاثية مع الأردن والعراق، واتصالاته المستمرة بالقوى الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، الصين)، تؤكد أنه فاعل لا متفرج، بل إن نجاح مصر في عقد “قمة القاهرة للسلام” في أكتوبر 2023، التي جمعت 35 وفدًا دوليًا، بما في ذلك قوى أوروبية وآسيوية، كان شهادة دولية على الوزن الدبلوماسي المصري، في لحظة إقليمية بالغة التعقيد.وفي المشهد الإقليمي الملتهب، نجد أن الموقف المصري الصامدضد العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة، وأيضا جهود الوساطة المصرية كانت حاسمة في وقف إطلاق النار في جولات متتالية وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، ثم إصرار الموقف المصري الحالي على الوقف النهائي للحرب والبدء في مفاوضات إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما لم تنجح أي قوة إقليمية في ملء هذا الدور.وفي ليبيا، لا تزال مصر اللاعب الأكثر اتساقًا، القادر على التواصل مع الشرق والغرب، والأقرب إلى الحلول الواقعية التي تحمي وحدة الدولة الليبية، وفي ملف سد النهضة، فرضت مصر القضية على أجندة مجلس الأمن الدولي والاتحاد الإفريقي، وأدخلتها في الحوارات الدولية، مما يعكس قدرة القيادة السياسية والدبلوماسية المصرية على تدويل الأزمات، وهذا لا يملكه سوى الدول صاحبة المكانة.يجب أن يشار أيضا إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يكن يومًا حليفًا مشروطًا لدولة كبرى، بل حافظ على استقلال قراره السياسي،والدليل على ذلك معروف ومشهود للعالم كله بداية من مواقفه من الحرب في غزة، ورفضه التدخل في شؤون السودان الداخلية، ومرورا بتوازنه في العلاقة بين روسيا وأوكرانيا، كلها دلائل على قائد لا يستسلم للضغوط، بل يوازن بين المصالح، وهو ما يجعل منه فاعلًا يحظى بالاحترام حتى من خصومه.هذا النوع من التأثير لا يُقاس بالكاميرات، بل بوزن الدولة في تفاعلات الأزمات.رابعا: سردية اقتصادية غير مكتملة:استند التقرير في نقده للاقتصاد المصري إلى مؤشرات الدَّين ونموذج الإنفاق، متجاهلًا عن عمد السياق العالمي المتغير منذ عام 2020، حيث تعرّض الاقتصاد الدولي لثلاث صدمات كبرى: جائحة كورونا، وأزمة الطاقة العالمية، والحرب الروسية الأوكرانية، ومع ذلك أظهرت مصر مرونة استثنائية مقارنة بالعديد من الدول ذات التصنيف الائتماني المشابه.المؤشرات الاقتصادية التي استندت إليها المجلة، على أهميتها، أُخذت بمعزل عن سياقاتها الزمنية والجيوسياسية، وإذا كان الدين الخارجي لمصر يبلغ في متوسطه نحو 38.8% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للبلاد في عام 2024، فإنه لتحليل خطورته يجب مقارنة هذه النسبة بدول كبرى في الاتحاد الأوروبي تجاوزت فيها الديون نسبة 120% كما هو الحال في إيطاليا واليونان، بل إن مصر بدأت منذ 2023 تنفيذ خطة إصلاح اقتصادي شاملة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، تضمنت تحرير سعر الصرف، وإصلاحات هيكلية لدعم القطاع الخاص، وتوسيع قاعدة التصنيع المحلي، ووفق تقرير البنك الدولي (مارس 2024)، فإن مصر هي الدولة العربية الأسرع نموًا في الصادرات غير البترولية.ووفقا لتقارير دولية ومحلية، فقد ارتفعت صادرات مصر غير النفطية بنسبة 29% إلى 8.67 مليار دولار خلال شهري يناير وفبراير الماضيين، مقابل 6.72 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2024، كما تَصدّر قطاع مواد البناء والصناعات المعدنية قائمة القطاعات الأعلى تصديرًا خلال أول شهرين من العام الحالي، بصادرات قيمتها 3.17 مليار دولار، مقابل 1.33 مليار دولار في الفترة نفسها من 2024، بنسبة نمو بلغت 138%، وحلّ قطاع السلع الهندسية والإلكترونية في مركز متقدم بعد نموه بنسبة بلغت 21% بنحو 1.02 مليار دولار في يناير وفبراير الماضيين، مقابل 846 مليون دولار في الشهرين ذاتهما من 2024.كما أظهرت التقارير سيطرة خمسة قطاعات هي (مواد البناء والصناعات المعدنية، والكيماويات والأسمدة، والصناعات الهندسية والإلكترونية، والحاصلات الزراعية، والصناعات الغذائية) على 86% من إجمالي الصادرات المحققة خلال أول شهرين من عام 2025، إذ بلغت صادراتهما مجتمعين 7.48 مليار دولار، حيث تبينأن شهري يناير وفبراير الماضيين شهدا طفرة في صادرات مواد البناء والصناعات المعدنية نتيجة استمرار استقبال طلبات تصدير قياسية من دول ليبيا والسعودية وإيطاليا والإمارات والبرازيل، وهو ما يعكس أن مصر حققت معدل نمو جيد في الصادرات خلال شهري يناير وفبراير منهذا العام، وأن هذا النمو الجيد في الصادرات كان نتيجة ارتفاع عوائد صادرات قطاع مواد البناء الذي يستحوذ على أكثر من ثُلث الصادرات، بجانب حفاظ قطاعات الملابس الجاهزة والصناعات الهندسية والطبية على معدلات نمو مرتفعة، ومن المتوقع أن تتجاوز صادرات مصر غير البترولية 45 مليار دولار بنهاية العام الحالي، خاصة مع زيادة فرص التصدير للسوق الأميركية بعد فرض رسوم جمركية قاسية على المنافسين الرئيسيين لمصر.إن الواضح أيضا من المؤشرات الاقتصادية التي تٌراجع من قبل المؤسسات المالية الدولية أن الحكومة المصرية خفضت الدين العام ومازالت خطط الإصلاح الاقتصادي تسعي للمزيد من التخفيض، رغم زيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والبنية التحتية، وقد حافظ الاقتصاد المصري على معدل نمو إيجابي في أكثر من عام أزمة، في حين سجّلت عشرات الدول انكماشًا حادًا.وبالنظر في تحليل معدلات الاستثمار الأجنبي في مصر، فقد ارتفع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر إلى 46.1 مليار دولار أمريكي، خلال العام المالي 2023/2024 مقارنة بحوالي 10 مليار دولار أمريكي، خلال العام المالي السابق، ويعود هذا الارتفاع الملحوظ إلى تدفقات استثمارية واردة بقيمة 35 مليار خلال فترة يناير/مارس من العام الماضي، في إطار صفقة رأس الحكمة، وقد حقق قطاع الصناعة أعلى نسبة مساهمة في إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الأخيرة، بنسبة وصلت إلى 33%، جاء بعده قطاع التمويل بنسبة بلغت 21%، كما شهدت الدولة ارتفاع ملحوظ في عدد الشركات الجديدة، خلال العام المالي الأخير بنسبة زيادة بلغت 15.9%، وارتفعت نسبة رؤوس الأموال المصدرة لتأسيسات جديدة في الشركات بنسبة 41.9%، حيث استحوذ قطاع الخدمات على نصيب الأسد من مجالات الشركات التي تم تأسيسها خلال السنة المالية الأخيرة بنسبة وصلت إلى 32.5%.كل ما سبق وتجاهلته مجلة “الايكونوميست” البريطانية في تقريرها بالعدد الأخير، جعل وكالة “فيتش” العالمية للتصنيف الائتماني تتوقع تحسن مؤشرات الاقتصاد المصري حتى العام المالي 2027/ 2028، بدعم من حزمة الإصلاحات والسياسات المالية التي تطبقها الحكومة في مصر حاليًا، ورجحت الوكالة، تراجع الدين الحكومي من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات القادمة، بانخفاض 12.5% عن المستويات الحالية، كذلك توقعت فيتش نمو الإيرادات العامة بنسبة 38.5% مقابل زيادة متوقعة في المصروفات بنحو 30.6% خلال الفترة نفسها، ما يسهم في خفض عجز الموازنة بنسبة 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا ما جعل وكالة فيتش تثبت التصنيف الائتماني طويل الأجل لمصر عند “B” مع نظرة مستقبلية مستقرة، مع توقعهابتراجع الدين الحكومي خلال العام المالي 2025/ 2026،مع الأخذ في الاعتبار أن بيانات فيتش تؤكد مدى جدوى السياسات والإصلاحات الاقتصادية التي تتخذها الدولة.أما وصف المشروعات الكبرى بأنها “عديمة الجدوى”، فهو رأي مخالف لما ورد في تقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي وصف مشروع “حياة كريمة” بأنه أحد أهم برامج تقليص الفجوة الحضرية في العالم، مؤثرًا على حياة أكثر من 60 مليون مصري، وموجهًا الموارد إلى الريف الذي ظل عقودًا مهمشًا، فلا يمكن – على مستوى الداخل – تجاهل حجم ما تم إنجازه خلال عشر سنوات،ووفقًا لتقارير هيئة المجتمعات العمرانية (2024)، فإن مصر أنشأت أكثر من 24 مدينة جديدة، وأكثر من 500 ألف وحدة سكنية، و8 آلاف كيلومتر من الطرق، وفي مجال الطاقة، تحولت مصر من مستورد صافٍ إلى مركز إقليمي للطاقة، ووقّعت اتفاقيات تصدير غاز لأوروبا بقيمة تجاوزت 20 مليار دولار.خامسا: الشعبية ليست رأيًا تحريريًا:ألمح التقرير إلى تآكل شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي دون أن يستند إلى أي مصدر علمي أو استطلاع رأي منشور من جهة معتبرة، في المقابل تشير مؤشرات قياس الرضا العام في مصر خاصة بعد موقف الرئيس في رفضه تهجير الفلسطينيين من غزة ووقوفه منفردا أمام الغطرسة الأمريكية ورفضه تلبية دعوة ترامب لزيارة البيت الأبيض، وتفهم الشعب لأهمية صفقات التسليح وتقوية الجيش المصري، ثم رؤية مشروعات التنمية وهي تتحقق في وقت قياسي، إلى أن نسبة الرضا عن الأداء العام للرئيس تتراوح بين 70 و80%، خاصة في المناطق التي شهدت تحسنًا ملحوظًا في الخدمات والبنية التحتية، ومما يُعد مؤشرًا على حجم الثقة الشعبية، أن الدولة المصرية تمكّنت من تنفيذ قرارات اقتصادية شديدة الصعوبة، مثل تحرير سعر الصرف وترشيد الدعم، دون أن تُواجَه باضطرابات كبيرة، وهو أمر نادر في بيئة نامية.الرئيس من جهته أكد مرارا أنه على درايته بـ “ترمومتر” الشعبية، لا سيما فيما يختص بالإصلاح الاقتصادي بالغ الضرورة، أو فاتورة تستوجب سدادها عن سياسات خاطئة في الماضي، وفي مناسبات متكررة، تعمد الرئيس الإشارة بشفافية كاملة إلىحجم المعاناة والضغوط الاقتصادية، وتقديرهلصلابة المصريين، وأنه يدرك صعوبة الظروف المعيشية وغلاء الأسعار، وأنه يرفض بيع الوهم للناس لاعتبارات سياسية وللحفاظ على الشعبية.سادسا: معيار الوفاء بالوعود… من يحدد جدواه؟أنهت المجلة تقريرها بمقولة: “الشرق الأوسط الجديد لا يقوم على الأيديولوجيا، بل على الدول القادرة على الوفاء بالوعود”، لكنمن يحدد هذه الوعود؟ وهل تُحسب بمدى إرضاء القوى الكبرى، أم بقدرة الدولة على تأمين احتياجاتها ومصالحها وسيادتها؟لقد وعدت مصر بإصلاح البنية التحتية، فأنشأت أكثر من8 آلاف كيلومتر من الطرق الجديدة، ووعدت بتحسين خدمات الصحة، فقضت على فيروس C بشكل شبه كامل بشهادة منظمة الصحة العالمية، ووعدت بتقليل التكدّس في المدن الكبرى، فبدأت إنشاء عاصمة إدارية جديدة ومنظومة مدن ذكية، ووعدت بالتصنيع المحلي، وها هي تستقطب استثمارات كبرى في الطاقة المتجددة والسيارات والأدوية.هذه “وعود” لم تُطلق في المؤتمرات، بل تجسدت في سياسات قابلة للقياس، بما يُعيد تعريف مفهوم الفاعلية السياسية بعيدًا عن التصورات الغربية النمطية.وتلخيصا، فإن مصر تصنع مكانتها بعيدًا عن الضجيج، وأن محاولة تصوير مصر كدولة فقدت وزنها الإقليمي، أو تقديم الرئيس عبد الفتاح السيسي كقائد مٌنعزل، هو خطاب لا يُعبّر عن الواقع بقدر ما يُعبّر عن إحباط نخب غربية من استقلال القرار المصري.لقد اختارت مصر طريقًا صعبًا لكنه وطني، لا تابعة لحلف، ولا منخرطة في صراعات إيديولوجية، ولا مستنزفة في نزاعات داخلية، وهذا يٌعد في بيئة مضطربة كالشرق الأوسط، ليس علامة ضعف بل علامة نضج لكل منصف.ويبقى أن نؤكد أن التحليل العلمي الرصين لا يعتمد على الانطباعات أو الرمزية الإعلامية، بل على مؤشرات التأثير الفعلي، ومصر اليوم، بقيادتها الحالية، ليست على الهامش كما تقول المجلة، بل في قلب معادلات المنطقة، تصوغ سياساتها بهدوء، وتبني مؤسساتها من الداخل، وتنتقل بثبات نحو دولة حديثة صلبة، وإذا كانت مصر تمر بمخاض اقتصادي واجتماعي حاد، فإنها لا تنهار، بل تعيد التشكل، تمامًا كما مرت فرنسا بأزمة عنيفة في ثلاثينيات القرن العشرين قبل أن تخرج كقوة نووية عظمى، تمر مصر الآن بلحظة شبيهة، سيكتب عنها التاريخ قريبًا باعتبارها ميلادًا جديدًا لدولة تعبت كثيرًا، لكنها لم تستسلم.وحين تتحدث مجلة دولية بهذا الحجم عن “خاسر إقليمي” دون دراسة مستفيضة أو توازن في الطرح، فهي تضر بمصداقيتها قبل أن تظلم من تكتب عنه، ومصر، التي تمر الآن بتحول اقتصادي واجتماعي واستراتيجي عميق، تعرف أنها لا تسعى وراء التصفيق الخارجي، بل تبني لمئة عام قادم، لا لعناوين اليوم.وعليه، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي – في تحليل موضوعي- هو الفائز الوحيد في المشهد الشرق الأوسطي الملتهب، ليس لأنه يصرخ في المؤتمرات، بل لأنه يبني بصمت، ويصوغ حضورًا يعيد لمصر وزنها بأدوات القوة الحقيقية التي أراها تتمثل بصمود في ثلاثية الاستقرار، والسيادة، والبناء المستدام.