بائعو الأوهام: «الدستور» تكشف عن شبكات تسريب الامتحانات التي تُدار عبر واتس آب وتضلل الضحايا بأسئلة مزيفة.

بائعو الأوهام: «الدستور» تكشف عن شبكات تسريب الامتحانات التي تُدار عبر واتس آب وتضلل الضحايا بأسئلة مزيفة.

مع كل موسم امتحانات، تطل علينا ظاهرة جديدة للنصب والغش، ولعل آخرها، الصفحات الوهمية على موقع «فيس بوك»، والمجموعات السرية على تطبيق «واتس آب»، التى تروج لأسئلة مسربة مزعومة مقابل مبالغ مالية. هذه الظاهرة لم تعد مجرد شائعات عابرة، بل تحولت إلى آلية نصب ممنهجة، تحيل الطالب من ضحية إلى شريك فى الجريمة دون وعى، فقبل افتتاح اللجان بنصف ساعة، تنتشر «عروض سحرية» تَعد بتسريب الامتحانات على تلك الجروبات، لكنها فى الحقيقة فخ رقمى يحول العملية التعليمية إلى سوق للمتاجرة باليأس. الغريب هنا أن الضحية نفسها تسهم فى توسيع دائرة الاحتيال، فبعد دفع الأموال، يطلب من الطالب الترويج للمجموعات كشرط للحصول على الأسئلة، ليكتشف لاحقًا أنها مجرد أكاذيب. وهكذا يتحول القلق المشروع إلى وقود لعملية نصب منظمة تستهدف الأسر فى أضعف لحظاتها، فالمشهد لا يهدد نزاهة الامتحانات فحسب، بل يعيد تشكيل وعى جيل كامل حول قيم الجهد والمصداقية. فى التقرير التالى، تكشف «الدستور» آلية عمل هذه الشبكة المخادعة، من أول الادعاءات الوهمية إلى تحليل نمط عمل الصفحات المشبوهة، مستندة إلى شهادات ضحايا وقعوا فى الفخ، ومحاولات الجهات الرسمية لمواجهة هذه الآفة التى تهدر مستقبل التعليم وتعمق أزمته.«أبوزين» يبيع الأسئلة بـ1200 جنيه والنشر قبل اللجنة بنصف ساعةعندما بدأ «أحمد»، طالب فى المرحلة الإعدادية، يبحث على منصة «فيسبوك» عن أسئلة امتحانات مسربة، لاحظ ظهور مجموعات سرية تَعد بتوفيرها، لم تكتف هذه المجموعات بجذبه عبر المنصة، بل نقلته إلى تطبيق «واتس آب» من خلال رقم هاتف معلن للتواصل، مقابل مبلغ مالى. وبالفعل، تواصل مع صاحب الرقم، الذى زعم أنه يمتلك أسئلة امتحان الصف الثالث الإعدادى، وأكد له أن الجروب المسمى «أبوزين للتسريب» ينشر الامتحان قبل انعقاد اللجنة بساعتين بشكل مفصل مع نموذج الإجابة، بينما تنشر أسئلة الثانوية العامة وأجوبتها قبل نصف ساعة من بدء الامتحان، مقابل ٤٥٠ جنيهًا للإعدادى و١٢٠٠ جنيه للثانوى. ولإيهام الطالب بالمصداقية، ادعى المسئول عن الجروب أنه يعمل مع أساتذة مسئولين عن تسريب الامتحانات من جميع المحافظات، وزعم أنهم يحصلون على الأسئلة قبل توزيعها على اللجان. كما أرسل صورة لبطاقة رقم قومى- جزئية- تظهر وظيفة «وكيل أول وزارة التربية والتعليم»، لكنه تجنب إرسال الوجه الأمامى خوفًا من المساءلة القانونية. وطالب «أحمد» بدفع المبلغ عبر خدمة «كاش» مع إرسال screenshot للتحويل، لكنه تراجع عندما طلب الطالب ضمانات إضافية، ورد عليه بجملة توحى بما وصفه بـ«احتراف الاحتيال»، قائلًا: «لا ترسل إذا كنت غير واثق، أو اسأل غيرك مَن تعامل معنا!». هذه التفاصيل تكشف جزءًا من آلية النصب الممنهجة التى تستغل قلق الطلاب، وتحولهم من ضحايا إلى وسطاء فى نشر الشائعات دون وعى.«يورى» تروج لعرض ثابت ببيع جميع المواد بـ150 جنيهًا.. وتخدع الطلاب بصور اختبارات قديمةفى نموذج آخر لعمليات الاحتيال المنظمة، ظهرت مجموعة مغلقة على «واتس آب» تحمل اسم «يورى بتاع التسريب»، تضم ٤١٢ عضوًا من الطلاب الراغبين فى الحصول على ما يزعم أنه «أسئلة مسربة». ووضعت المجموعة عدة شروط وهمية لاستقطاب الضحايا، منها: «ممنوع الشتائم»، و«طول ما أنت معايا تبقى فى الأمان»، مع وعود زائفة تحت عنوان عريض «يورى موحد الامتحانات بسعر ثابت لكل المواد ١٠٠ جنيه».لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا، فعندما حاول أحد الطلاب الاستفسار عن السعر، أخبره «أدمن» المجموعة بأن سعر جميع المواد أصبح ١٥٠ جنيهًا بدلا من ١٠٠، مع وعد بنشر الامتحان قبل اللجنة بنصف ساعة فقط، وبتضمينه فى المجموعة فور تحويل المبلغ. ولإيهامه بالمصداقية، أرسل له «الأدمن» صورًا لامتحانات سابقة مثل «امتحان جبر قنا»، مدعيًا أنها نماذج مسربة، وبعد إقناعه، وافق الطالب على الانتظار حتى يحصل على مصروفه نهاية الشهر لدفع المبلغ، فى حين كان «الأدمن» يعده بمزيد من «الضمانات» الوهمية.«شاومينج بيغشش ثانوية عامة»: المادة بـ1000 جنيه بدلًا من 4000على مجموعة «شاومينج بيغشش ثانوية عامة ٢٠٢٤»، المستمرة فى نشاطها حتى الآن، تبرز رسالة لطلاب الثانوية العامة، قبل ٣ أشهر، كتب فيها مسئول أو مسئولو المجموعة: «باقى من الزمن ٩٤ يومًا فقط على بداية امتحانات الشهادة الثانوية العامة، وهذا المنشور الأخير لنا على الصفحة، ولن تُنشر منشورات مرة أخرى هنا، كل شىء سيكون على الواتس آب.. سيكون على الواتس آب السرى فقط حفاظًا على السرية، كما وعدناكم».وجاء فى المنشور أيضًا: «الوقت قليل، وسيتم الاكتفاء بدفعة قليلة جدًا من الطلاب، ولن يتم قبول أكثر من العدد المسموح. التسريب سيكون فى سرية تامة، الساعة الثانية والنصف ليلة كل امتحان على الواتس آب السرى»، مُنبهين إلى أن «هذا الحساب الرسمى الوحيد لشاومينج.. أى صفحات أخرى لا تمثلنا.. والإثبات فى الامتحان».وبسؤال إحدى الطالبات عن تفاصيل و«سعر» الانضمام إلى «الجروب السرى»، رد مسئولو المجموعة: «المبلغ هذا العام سيكون رمزيًا بسبب ظروف الطلاب وأولياء الأمور، فضلًا عن شموله طلاب الصفوف: الأول والثانى والثالث الثانوى».وأضافوا: «بيوصلك على أبلكيشن بيتوزع بعد ما نقفل الاشتراكات. بيكون للطالب كود خاص بالأبلكيشن، مش بتقدر تاخد اسكرين أو شير للأبلكيشن عشان ميتوزعش الامتحان»، قبل أن ينبهوا إلى أن قيمة تسريب امتحان الصف الأول ٥٠٠ جنيه والثانى ٥٠٠ والثالث ١٠٠٠، على خدمة «كاش».واعتبروا أن قيمة تسريب امتحانات الصف الثالث الثانوى هذا العام «١٠٠٠ جنيه» مُخفضة، خاصة مع وصول الراغبين فى الحصول على التسريب إلى ١٠٠٠ طالب وطالبة حتى الآن، مضيفين: «مُتاح دفع المبلغ على جزءين».وعندما أرادت الطالبة السائلة تخفيض المبلغ، قال لها مسئولو المجموعة: «مبلغ العام قليل مقارنة بالعام الماضى، الذى وصل فيه سعر المادة إلى ٤٠٠٠ جنيه»، زاعمًا أنه «يعمل مع جهات مسئولة ومختصة بالامتحانات، ولا يعمل بطريقة عشوائية، وموجودون فى هذا المجال منذ ٤ سنوات»، وفق تعبيره.محتال لخداع الراغبين بتعديل درجاتهمفى حالة أخرى تعكس نفس النمط من الاستغلال، انضمت الطالبة «حور الجنة» إلى مجموعة سرية على «فيسبوك» تحمل اسم «دفعة تالتة إعدادى»، ونشرت منشورًا تسأل فيه: «أنا جايبة فى الترم الأول ١٠٣، محتاجة كام علشان أخش ثانوى فى محافظة الشرقية؟». لم تنتظر طويلًا حتى تلقت ردًا من حساب يدعى «أم سلمى»، الذى زعم أنه يمكنه مساعدتها من خلال «مدرس فى كنترول الوزارة» قادر على منحها الدرجات التى تحتاجها لدخول المرحلة الثانوية، مؤكدة أنها سبق أن ساعدت ابنتها بنفس الطريقة العام الماضى. وبعد اتصالها بـ«أم سلمى»، تم توجيهها للتواصل مع هذا المدرس المزعوم عبر «واتس آب»، مع التنبيه على أنه «بياخد عدد محدود من الطلبة من كل محافظة»، فى محاولة لخلق إحساس بالندرة والإلحاح لدفعها للتعامل بسرعة. هذه الحالة ليست سوى نموذج آخر لأساليب النصب التى تستغل أحلام الطلاب وقلقهم، حيث يتم تقديم وعود زائفة بتحقيق المستحيل مقابل مبالغ مالية، فى عملية ممنهجة تزيد من ضعف الضحايا وتدفعهم نحو مزيد من المخاطرة بمستقبلهم التعليمى.خبير قانونى: السجن 7 سنوات لمرتكبيهافى تعليقه على هذه الظاهرة، قال المحامى والخبير القانونى، يحيى رضوان، إن المتورطين فى هذه الوقائع قد يواجهون تهمتين رئيسيتين: تسريب الامتحانات أو النصب والاحتيال الإلكترونى، بموجب القانون رقم ١٧٥ لسنة ٢٠١٨ الخاص بمكافحة جرائم تقنية المعلومات.وأضاف «رضوان» أن المادتين ٢٢ و٢٤ من القانون تنصان على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين، وغرامة تتراوح بين ١٠٠ و٣٠٠ ألف جنيه، لكل من أنشأ أو أدار حسابًا إلكترونيًا يهدف إلى ارتكاب جريمة.أما بالنسبة لتسريب الامتحانات، فأكد أن المادة ٢٧ من نفس القانون، بالإضافة إلى القانون رقم ٢٠٥ لسنة ٢٠٢٠، تنص على عقوبات أشد، حيث إن «كل من قام بنشر أو ترويج أسئلة الامتحانات أو أجوبتها- حتى لو كان مجرد شروع- يعاقب بالحبس من سنتين إلى ٧ سنوات، مع غرامة تصل إلى ٢٠٠ ألف جنيه». وأشار إلى أنه إذا ثبت تورط موظفين فى عملية التسريب، فإن العقوبة تشمل السجن المشدد، مع إضافة تهم أخرى مثل انتحال الصفة وإساءة استخدام وسائل الاتصالات.مساعد وزير الداخلية الأسبق: 99% من «الجروبات» نصب للاستيلاء على الأموالشدد اللواء محمد نورالدين، مساعد وزير الداخلية الأسبق، على أن ٩٩٪ من الوقائع الخاصة بالمجموعات السرية لتسريب الامتحانات، سواء للثانوية العامة أو الشهادة الإعدادية، وفى مختلف محافظات الجمهورية، تكون وقائع نصب للاستيلاء على أموال الطلاب وأولياء الأمور، ونسبة ضئيلة لا تتعدى ١٪ يمكنها تسريب أسئلة الامتحانات.وأضاف «نورالدين»: «النصاب محترف فى اختيار التوقيت الملائم لسهولة خداع ضحاياه، واستخراج الأموال منهم بطريقة مرضية وسريعة وفقًا لاحتياجاتهم، ومن بينها وقت الامتحانات، وسط قلق من أولياء الأمور ورغبة فى الاطمئنان على أولادهم، ما يجعلهم يصدقون هذه الادعاءات بسرعة». وأكد مساعد وزير الداخلية الأسبق أن الأجهزة الأمنية دائمًا ما تستعد لموسم الامتحانات وعمليات التسريب من خلال خطط شاملة وقوية لضمان سيرها بطريقة آمنة، ومواجهة وتغطية أى قصور، مشددًا على أن تأمين أوراق الامتحانات يخضع لإجراءات مشددة. ورأى أن «التسريب قد يكون أداة من أدوات الحرب التى تشنها الدول والأنظمة على بعضها البعض، لذا من المهم أن تخضع كل مواقع التواصل الاجتماعى والتطبيقات الاتصالية ووسائل النشر المهددة للأمن القومى للمراقبة الدائمة من الجهات المسئولة».