فنانة من دمشق تشارك قصتها مع الهجرة وكيف دمجت بين الفن التشكيلي والهندسة (حوار)

فنانة من دمشق تشارك قصتها مع الهجرة وكيف دمجت بين الفن التشكيلي والهندسة (حوار)

جاءت الفنانة التشكيلية رنا حتمل من قلب دمشق، المدينة التي تنبض بالتاريخ والجراح إلى مونتريال في بلاد الغيوم والمطر، حطّت رحالها هناك، حيث تعمل في مجال التصميم المعماري والعمراني، مع تركيز خاص على تصميم البيئات الملائمة لذوي الهمم. لم تكن هجرتها إلى كندا مجرد انتقال مكاني، بل كانت فعل مقاومة في وجه الاستبداد، إذ فُرض عليها الرحيل لا الغياب.رنا حتمل، الفنانة والمهندسة المعمارية، تواصل اليوم مسيرتها الأكاديمية في جامعة مونتريال في مقاطعة كيبك، حيث تحضّر رسالة الدكتوراه في مجال الفنون، متناولة تفسير العمارة اللوغاريتمية من خلال تجربتها الفنية. ومن خلال معرضها المشترك مع الفنان المصري محمد عبد الهادي، الذي أُقيم مؤخرًا في القاهرة تحت عنوان “رسائل”، تروي لنا حتمل تفاصيل احترافها للفن، وتكشف ملامح من مسيرتها المعمارية، وأسرار هجرتها التي شكّلت أول فصولها عبر الريشة.حدثينا عن انطباعاتك عن القاهرة وكيف ترى المشهد التشكيلي المصري ؟هذه هي زيارتي الثالثة إلى القاهرة، المدينة التي تمتلك طعمًا خاصًا بالنسبة لي، وأراها ما تبقى لنا من الحضور الفني في العالم العربي. أشعر في شوارعها بدفء وانتماء حقيقي، وكأنني أعود إلى جزء مني. حركة التشكيل في مصر، برأيي، هي الأغنى والأقوى عربيًا، وبعض شوارع القاهرة تذكرني بشوارع دمشق.وُلدتِ في أسرة فنية، هل كان لذلك أثر مباشر في احترافك للفن؟ وماذا قدّمت لك دراسة الهندسة؟وعيت على الدنيا وأنا أرسم أو أفكر في الرسم، وذلك بتأثير والدي، الفنان التشكيلي الراحل ألفريد حتمل. كنت أقضي ساعات أراقبه وهو يرسم جدارياته، وكان يعطيني أوراقًا وأقلامًا لأرسم إلى جانبه. شعر بحبي للرسم منذ سن مبكرة، فدعم ميولي ووفّر لي الأدوات والمناخ المناسب، حتى إنني لا زلت أحتفظ برسوماتي الأولى وأرشفها.ساهم والدي في تكويني البصري بشكل كبير؛ فقد كان يصطحبني معه إلى مركز الفنون التشكيلية “أدهم إسماعيل” في دمشق حيث كان يُدرّس، وهناك كنت أراقب المتدربين وهو يتيح لي الرسم دون فرض أو تصحيح. كان يملك رؤية خاصة تجاه تعليم الأطفال، تقوم على إطلاق العنان لحريتهم في التعبير دون قيود مدرسية.حين كنت في عمر اليفاعة، حدثني عن المدارس الفنية وعن فنانين كبار مثل فان غوخ ورينوار وغوغان، ما شكّل معرفتي النظرية بالفن ورسّخ لدي الأساس الجمالي الذي رافقني.لكن، للأسف، غادرنا والدي وأنا في المرحلة الثانوية، ما ولّد لدي ردة فعل عكسية تجاه الرسم. وبعد تخرجي في كلية الهندسة المعمارية، فقدت والدتي أيضًا، فلجأت إلى الرسم للتعامل مع حزني، وأقمت أول معرض لي بعد وفاتها.أما عن دراسة الهندسة، فقد ساعدتني كثيرًا في فهم الفضاءات، وبات بناء اللوحة عندي خاضعًا لتكوين خاص وأسلوب مدروس. أعتقد أن إنتاج الإنسان الفني هو حصيلة بيئته وتجربته وخبراته المتراكمة.كيف ترين شرط “الغريب وغير المألوف” في الفن؟ وهل هو ضرورة كما يُروّج البعض؟لا أعتقد أن “الغريب” شرط حتمي للفن هذا المفهوم نشأ ضمن ما يُعرف بـ”الصناعة الثقافية للفن”، والتي جعلت الفن في كثير من الأحيان يبدو بعيدًا عن المتلقي العادي.هناك أسباب لذلك، أولها سرعة ظهور المدارس الفنية وتعددها، ما أدى إلى قطيعة مع الجمهور، خاصة حين ابتعد الفن عن الواقعية، التي تبقى الأقرب إلى الناس. وثانيًا، دخول الوسطاء وتجار الفن الذين حوّلوا العمل الفني إلى سلعة لها حسابات خاصة، ما جعل الغرابة وسيلة للفت الانتباه لا أكثر.

هل تُقيّد “الصناعة الثقافية” تطور الفن؟ليست بالضرورة تقييدًا، لكنها تفرض أطرًا جامدة تجعل الفن تابعًا لشروط تسويقية محددة كي يكون قابلًا للترويج وهذا التوجه قد يُفرغ الفن من محتواه الإنساني.ألا يتعارض هذا الرأي مع أسس مدارس كالسريالية؟السريالية وغيرها من التيارات ظهرت كرد فعل على القواعد الصارمة، لكنها لم تكن الوحيدة. في فترات متقاربة، عاصرت عدة مدارس فنية بعضها بعضًا. لم يكن على الفن أن يتبع اتجاهًا واحدًا.في الآونة الأخيرة، سادت موجة من الأعمال الغريبة والصادمة، كالموزة على جدار المتحف، لكنها لم تكن دائمًا ذات معنى أعتقد أن هذه الموجة بدأت بالانحسار، ونشهد الآن عودة إلى الواقعية، لكن بروح معاصرة.

هل تغيّر مفهومك للفن بمرور السنوات؟ وهل يمكن للفن أن يشتبك مع قضايا كبرى؟بالتأكيد المفهوم يتغير ويتطور مع تراكم التجربة وتبدل القناعات، وأرى ذلك أمرًا صحيًا أؤمن أن الفن مرآة فردية للفنان، لكنه في الوقت نفسه مسؤول أمام مجتمعه يجب أن يحمل رسالة ويعكس الواقع ويضيء على الأزمات.منذ 2012 بدأت أشتغل على موضوعات مستمدة من الأزمة السورية، وكانت الهجرة والحرب محور معرضي في بيروت عام 2016. ومنذ ذلك الحين، رافقتني مفردة “الغراب” كرمز للسواد، حتى حين حاولت التطرق لموضوعات أخرى مثل الحب، ظل الغراب رمزًا ملازمًا يشير إلى زمن الأزمات.

 هل كان اللجوء للهجرة واقع فرض نفسه على تجربتك ؟ بالطبع لم تكن الهجرة ابدا خيارًا حرًا، بل جاءت كواقع قاسٍ. عدد كبير من السوريين غادروا البلاد، بعضهم طواعية، لكن الأغلبية غادروا رغمًا عنهم، تحت وطأة الحرب والخوف وانعدام الأمان.حملت هذا الوجع معي، وعبّرت عنه بريشتي. رسمت الهجرة، وعبّرت عن ترك الأمكنة والانفصال عنها قسرًا، إلى أماكن جديدة ومجهولة تناولت في لوحاتي حركة الأطراف البشرية المتجهة بعيدًا، في تقابل بصري ورمزي مع حركة الأجنحة… وهنا لعب “الغراب” دورًا رمزيًا محوريًا.هذه المجموعة من اللوحات، التي تناولت موضوع الهجرة، وُلدت بالتزامن مع هجرتي إلى كندا، وكانت محور معرضي في تورنتو عام 2017، بالتعاون مع الأوركسترا العربية الكندية.

لماذا اخترت الغراب تحديدا للتعبير عن تلك الحالة التي تعيشينها ؟اخترت الغراب، لا طائرًا آخر، لأنه أكثر تعبيرًا عن الحالة التي كنا نعيشها. كان رمزًا لاستمرارية السواد، للمنفى، وللفقد الذي اجتاح البلاد. لم تكن الهجرة رحلة بحث عن حلم بقدر ما كانت محاولة للنجاة، للعثور على مكان أكثر أمانًا.استخدمت الغراب دائما كرمز بعكس حالة الحروب والازمات بداية الازمة في سوريا ثم عندما رسمت الهجرة وجد الغراب كرمز للمرحلة بتتابعاتها.

اذا سألتني عن رؤيتي الغراب حسب معرفتي لا يهاجر موسميا كبقية الطيور المهاجرة وهنا قد يرمز لحالة الهجرة طلبا لمكان اكثر امنا.. لا أريد الاستطراد اكثر بحيث اترك مساحة كافية لتأويلات المتلقي.. وفي معرضي المشترك الأخير في القاهرة غاليري نوت مع الفنان المصري محمد عبد الهادي سمعت تأويلات كثيرة لزوار المعرض عن لوحاتي وهذا سرني بمعنى أن اللوحة حرضت المتلقي على محاولة شرحها كل حسب رؤيته.ماذا عن مستقبل الفن في عالمنا العربي وعن مدى تأثير الذكاء الاصطناعي عليه ؟تطبيقات الذكاء الاصطناعي موجودة وتتطور بسرعة لافتة ولا نستطيع نكران ذلك او تجاهله، نحن بلاد نمتلك تاريخا وارثا يحتم علينا احترامه بمعنى الاستقاء منه وتطويره لا تكراره دون اضافة للغة العصر.. ولا مانع طبعا من ادخال هذه التطبيقات كيف لا اعرف بالضبطشخصيا اعمل على تطوير اسلوبي الخاص وهذا لم ينته حاليا، لذلك لم افكر في اللجوء الى قدرات الذكاء الاصطناعي حتى الآن.أخيرًا.. ما هى مخاوفك من العودة إلى سوريا؟ وكيف ترين مساحة الحرية ومستقبل الفن هناك؟سؤال يمسّ الوجع. أحاول أن أكون متفائلة، لكن المؤشرات ليست مطمئنة بالكامل رغم أن انتقال السلطة تم دون صدامات، إلا أن هناك أحداثًا مؤسفة تمس السوريين. لا أستطيع التنبؤ بدقة، لكننا ننتظر الاستقرار وتوقف العنف المجاني.