حول العمى الجليدي وساراماجو

حول العمى الجليدي وساراماجو

توجد مقولة أطلقها المعترضون على انضمام البرتغال وإسبانيا إلى الاتحاد الأوروبى تقول إن أوروبا تنتهى عند جبال البرانس، أما جنوبها فينتمى إلى إفريقيا، هذه المقولة دفعت البرتغالى ساراماجو إلى كتابة رواية «الطوف الحجرى»، تخيل فيها أن جبال البرانس هذه تصدعت، ما تسبب فى انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية «إسبانيا والبرتغال» عن أوروبا، فى المحيط الأطلنطى، وكان سبب هذا التصدع نباح كلب، وامرأة مطلقة تجلس على الأرض ترسم خطًا بفرع شجرة، وموظف يعمل فى مكان ما يقذف حجرًا فى المحيط ولا يهدف لشىء، وصيدلى يشعر بزلزال بمفرده، هذه التفاصيل الصغيرة، أو الأفعال التى لا يوجد رابط بينها، أحدثت تأثيرًا مرعبًا على حكومات أوروبا وإسبانيا والبرتغال، وتكاتف الجميع كما يحدث فى الأفلام الأمريكية لإنقاذ المنطقة التى يعتبرها البعض جزءًا من إفريقيا.تذكرتُ هذا العمل وأنا أتابع بعض التعاطف المفاجئ الذى ظهر فى تصريحات بعض القادة الأوروبيين تجاه الشعب الفلسطينى، التعاطف الذى جاء متأخرًا والذى لا معنى له، فى ظل حرب الإبادة التى يشاهدها العالم الديمقراطى المتحضر. وله قصة أخرى بدأت بنباح كلب فى يوم ممطر فى بلد ما، كان من المقرر أن يكون أول يوم للانتخابات، دون أن يذهب أحد إلى صناديق الاقتراع، ترتبك الحكومة جدًا، فى البداية اعتبرت عزوف الناخبين كان سببه سوء حالة الطقس، وبعد أيام توافد الناخبون دون اتفاق للإدلاء بأصواتهم، ولكن دون اختيار أحد المرشحين، أوراق انتخابية بيضاء تمامًا، ارتبكت الحكومة من تزايد الأعداد، ورغم أن حق الإدلاء بأصوات بيضاء يكفله الدستور فإن الحكومة تشن حربًا ضروسًا تنال من أصحاب الأصوات البيضاء وتشيد بجهود من سمتهم المواطنين الشرفاء، وهم المواطنون الذين يدلون بأصوات انتخابية صحيحة، وجدير بالذكر أن هذه البلدة هى البلدة ذاتها التى أصيب جميع سكانها بعمى أبيض مفاجئ عدا امرأة وحيدة هى زوجة طبيب البلدة.تنتقل البلدة خلال روايتين لساراماجو من عمى أبيض بياضًا ناصعًا إلى بصيرة حادة، وبعد العديد من المفاوضات والاجتماعات والتحريات والبيانات الحكومية والصحفية والجهود المستمرة للكشف عن هوية المحرض على هذه الثورة البيضاء، تشير الأصابع جميعها إلى زوجة الطبيب، وكأن البلدة تُعاقبها أنها أبصرت حين عمى الجميع، تُقتل المرأة فى النهاية ويُقتل المأمور الذى ساعدها وتعود الحكومة إلى تطبيق ديمقراطيتها المعهودة ويتوقف الكلب أخيرًا عن نباحه الذى ظل ممتدًا طيلة الأحداث.فى روايته الأشهر «العمى» تبدأ الأحداث فى إشارة مرور، حيث يصاب سائق سيارة بالعمى، يستغيث وهو يصرخ، ليتجمع الناس، ويتطوع أحدهم لتوصيله إلى بيته بسيارته، يسرق هذا الشخص السيارة بعد توصيله، يؤخذ إلى الطبيب، الطبيب يقول إنه لا يعانى من شىء وإن عينيه سليمتان، بعد ساعات يصاب سارق السيارة بالعمى والطبيب أيضًا، والمرضى الذين كانوا فى غرفة الانتظار، وينتشر وباء أطلق عليه «العمى الأبيض» دون معرفة السبب، كان نوعًا مختلفًا عن العمى المعروف، المصاب به يرى كل شىء أبيض، تتدخل الحكومة وتنقل المصابين إلى الحجر الصحى لمحاصرة العدوى، هى ترسل لهم الطعام فقط، لكنها تقتل من يحاول الهرب، أنت فى عالم عميان، باستثناء زوجة الطبيب التى تظاهرت بالعمى حتى تكون إلى جوار زوجها، عالم غريب، شاهدنا فيه انهيار الأخلاق وغياب القانون.جوزيه ساراماجو حالة إنسانية وإبداعية كبيرة، يطيب لى زيارة أعماله بين الحين والآخر، ليس فقط بسبب خياله الخصب وحلوله المدهشة، فهو دائمًا ما يتكئ على حدث سياسى ويجرده من جانبه الخبرى لكى ينتقل به إلى أزمات الإنسان المعاصر، المحاصر بالأكاذيب والوعود البراقة، هو ابن فقراء، لم يكمل تعليمه الجامعى، ثقف نفسه، وانحاز لقضايا الإنسانية وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطينى وكان يشارك فى المظاهرات التى كانت تدعمه فى إسبانيا، أولى كتاباته الإبداعية كانت وهو فى الخامسة والعشرين من عمره، وبعدها توقف طويلًا؛ لأنه كما قال فى أحد حواراته لا يملك شيئًا يقال.وحين تقارنه بكتاب الروايات فى ثقافتنا العربية ذات الجوائز الضخمة، وجرأة الشباب على كتابة رواية كل شهر، تجد أن هذا الفن لن يعيش فيه غير الذى يحمل همًا إنسانيًا وطاقة روحية تتكون مع التقدم فى العمر، عاد إلى ممارسة الكتابة بعد سن الأربعين، وقال قبل رحيله «عن ٨٧ عامًا» إنه لو مات فى الستين ما كان سيترك شيئًا له قيمة فى الأدب البرتغالى، كان متسقًا مع نفسه، ولم يتنازل سياسيًا لإرضاء السلطة فى بلده، هجر وطنه سنة ١٩٩٣ إلى جزيرة لنثاروتى الإسبانية، بسبب قرار منع روايته «إنجيل المسيح» من التداول، وهى الرواية التى جعلت الفاتيكان يحتج على منحه جائزة نوبل، وتساءل لماذا تمنح الجائزة لكاتب متمرد على الكنيسة الكاثوليكية؟ وكان رده الساخر «لا أعرف معنى الكلمة التى وصمنى الفاتيكان بها ليعلن عن معارضته لحصولى على جائزة نوبل، لذلك أقول للفاتيكان عليه أن يتفرغ لصلواته ويترك الآخرين يعيشون فى سلام».هو لم يكن ضد المسيحية، ويحترم معتنقيها، لأنها تدعو إلى محبة الآخرين، «وهو لا يستطيع، ولا يرغب فى حب جميع الناس، بل يكن الاحترام لجميع الناس، ويقصر حبه على بعضهم فقط»، لم يتخلّ أيضًا عن الاشتراكية رغم سقوط الاتحاد السوفيتى، لأنها قبل أن تكون نظامًا سياسيًا أو اجتماعيًا فهى حالة روحية، ويرى أن الرأسمالية بوضعها الحالى وتطبيقاتها غير قادرة على تقديم حلول حقيقية لبؤس العالم، لذلك فإن الاشتراكية لم ينته دورها كما يعتقد البعض.من مواقفه الناصعة زيارته للأراضى الفلسطينية المحتلة إثر مذبحة جنين، التى وصفها بأنها «الجريمة البشعة»، وأنها لا تقل بشاعة عن «أوشفيتز» التى بنت عليها إسرائيل أسطورة وجودها، ورد على منتقديه وقتها بأنه يفضل أن يكون ضحية كالفلسطينيين على أن ينتمى إلى معسكر القتلة بالفعل: إسرائيل، والقتلة بالصمت: الغرب وإعلامه.. وأضيف من عندى وعملاؤه.