“كشكش بك”: عندما تجسدت الشخصية من حلم

في مذكراته التي كتبها بنفسه، يروي الفنان الكبير نجيب الريحاني تفاصيل ميلاد شخصية “كشكش بك”، التي أصبحت فيما بعد حجر الأساس في رحلته الفنية، وهناك مذكرات اخرى وقد أثارت هذه المذكرات تساؤلات عدة، خاصة بعد أن أشار كاتبها شعبان يوسف إلى أن مضمونها مأخوذ من بديع خيري، الأمر الذي وضع علامات استفهام حول مدى أصالة الرواية الذاتية.
كتب الريحاني:
ويذكر “الريحاني” في مذكراته: “في إحدى الليالي، بينما كنت مستلقيا على فراشي، بدأت أستعرض شريط حياتي، بأفراحه وأحزانه، ووقفت أمام العديد من التجارب التي مررت بها، محاولا استخلاص الدروس منها، وبينما أنا غارق في هذه الأفكار، رأيت لا أدري أكنت نائما أم يقظا طيفا على هيئة رجل يرتدي الجبة والقفطان، ويضع على رأسه عمامة ريفية ضخمة، قلت في نفسي: ماذا لو جعلنا من هذه الشخصية محورا لرواية مسرحية؟”لم يتردد الريحاني لحظة، كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا حين نهض من فراشه، وأيقظ شقيقه الأصغر ليملي عليه فكرة الرواية، التي تدور حول عمدة ريفي جاء إلى القاهرة يحمل أمواله، فالتفت حوله الفاتنات حتى أضعن ثروته، فعاد إلى قريته نادما، متعهدا ألا يكرر الخطأ.ويضيف: “حين أوشك ملهى “الأبيه دي روز” على الإفلاس، اقترح الريحاني على صاحبه “الخواجة روزاتي” تأجيل إغلاقه لبضعة أيام على أمل تقديم عرض جديد يعيد الرواد وافق روزاتي، فكانت تلك اللحظة بداية ميلاد أول عرض لشخصية “كشكش بك”، من خلال اسكتش كوميدي مدته عشرون دقيقة بعنوان “تعالي لي يا بطة”.يتذكر الريحاني يوم الافتتاح بشيء من السخرية والقلق: “خلال البروفة النهائية شعرت أن العرض سخيف للغاية، وقلت لنفسي: لو كنت في مقاعد الجمهور، لشتمت المؤلف… وأنا المؤلف والمخرج والملحن في آن واحد شعرت بالهلع، حتى إنني أمسكت قلبي بيدي من شدة التوتر، وسرت نحو المسرح ساقاي لا تقويان على حملي”.وقف أمام المرآة ليضع مكياجه، ولأول مرة يرسم ذقن “كشكش بك”، فنظر إلى صورته في المرآة فرأى وجها يشبه تماما ما تخيله: عمدة ساذج، تقدم به العمر لكن في عينيه بقايا سحر الحياة.”رفعنا الستار، وظهرت بجبتي وقفطاني، وقلبي يرتجف.. كنت أفكر في الأربعين قرشا التي أتقاضاها يوميا، وهل سأحصل عليها إذا فشل العرض؟”.بعد نهاية العرض، لم ينتظر الريحاني رد فعل الجمهور أو الإدارة، بل ارتدى معطفه ورفع ياقته ليخفي وجهه، وتسلل خارج الملهى دون أن يمر على الخزينة، لكنه فوجئ بوكيلة المسرح تناديه بحرارة وتهنئه على الأداء، فظن أن الأمر خدعة، وأنها تمهيد لتوبيخه وطرده.قادته الوكيلة إلى “الخواجة روزاتي”، الذي صافحه مبتسما وقال له:”أنا ما كنتش أظن أبدًا إنك ممثل عظيم بالشكل ده.. أنت هايل قوي! مبروك!”.حينها طلب منه الريحاني أن “يتحف” جيبه أيضا، فناوله روزاتي ستين قرشا، قائلا إن هذا سيكون أجره من الآن فصاعدا.”وضعت المبلغ في جيبي، وذهبت إلى استيفان روستي، وقلت له ضاحكا: ما حدش أحسن من حد… والروس ساوت بعضها يا قفا”.