رفيقي الفراق!

الموت… تلك الحقيقة التى لا يغفلها قلب، ولا ينكرها عقل، ولا ينجو منها جسد.
ورغم وضوحها الفادح، فإنها تبقى غامضة، مهيبة، تتشح بالسكون وتتكلم بالصمت، وتظل أبعد من أن تطالها أدوات الطب أو مناهج العلم، ولعلها الحقيقة الوحيدة التى لم تجرؤ البشرية على ادعاء امتلاكها، أو الزعم بفك شفراتها، سوى عبر ما أذنت به السماء.
قناعتي، بعد رحلة طويلة فى دروب الطب ومختبرات الجسد، أن رحلة الإنسان يحدها الميلاد والموت، أما الميلاد، فقد صارت له خرائط دقيقة، ومراحل معلومة، ومؤشرات مرئية، نرى الجنين وهو يتخلق، ونرصد كل لحظة من تطوره، حتى صار الميلاد حدثًا بيولوجيًا محسومًا، يراقبه الطبيب والعالم والعامة معًا، بل صار من الممكن أن نٌديره، ونساعد فى حدوثه، بل ونختاره فى توقيتٍ محدد، لقد أوصلنا العلم بفضل الله إلى أن يكون الطب سببا في فتح أبواب الأمل بالحياة لمحرومٍ منها، فنزرع البذرة فى رحمٍ كان عقيمًا، وننتظر الحصاد فى فرح مشوب باليقين، ومع تطور تقنيات الإخصاب والمساعدة على الإنجاب، باتت الولادة حدثًا متوقعًا، منطقيًا، مألوفًا، يحمل معه البشارة لا الدهشة، والأمل لا الحيرة.
وحين يكون الطبيب أديبًا وكاتبًا، فإنه لا يكتفي بالنظر إلى الموت كعرضٍ سريري أو نهاية بيولوجية، ذلك أن الطبيب يقضي يومه بين الأسرة البيضاء، وفوقها تتجرد النفوس من ذاتيتها، وتتعرى الأجساد وتتكشف، وتخلع الشخوص أقنعتها، ويتحقق الصدق على ألسنة الأجساد المريضة كما لو كان ينطق في تجربة أولى، وعليها أيضا تتحرر صرخة الألم المدوية في غرفة الولادة، وتٌسمع همهمة المناجاة في العناية المركزة، ويقبل العقل بلا تصلف احتمالية الموت في غرفة العمليات، وكل هذه الأطوار يٌعايش الطبيب لحظتها الأولى، فإذا كان من بين حكماء القلم وكتاب الأدب فيكون قد جمع بين وظيفة الأدب وهي الإبحار في أعماق النفس البشرية وفك طلاسمها وتقويمها، وبين مهنة الطب في العناية بالنفس والبدن، وبهما يصل إلى حالة الكمال في الاتصال بالذات الإنسانية المجردة، ويكون من أصدق المعبرين عنها.
والطبيب يتعامل مع الموت كقضية وجودية كبرى، تستحق التأمل لا التشخيص فقط، فهو من جهة يحمل أدواته العلمية التحليلية، يُفتش فى الأعراض، ويتتبع الأسباب، ويحلل السياق الزمني والفسيولوجي بدقة الباحث، ويقارن بين الحالات، ويدوّن المشاهدات كما لو كان يكتب بحثًا فى علم الحياة والموت، لكنه من جهة أخرى يمتلك حس الكاتب وعمق الأديب، فيلتقط ما لا تراه الأجهزة، ويسمع ما لا تسجله النبضات، ويشعر بما لا يُقاس بالمعايير الطبية، فهو في هذه الحالة يجمع بين العقل والقلب، بين الدليل والتحليل، بين النصوص العلمية ونصوص العقيدة، فيُدرك أن للموت منطقًا روحيًا لا يقل أهمية عن منطقه العضوي، ولأنه عايش تلك اللحظات الفاصلة بين النبض والسكون، فقد بات يرى فى الموت درسًا لا مجرد حادثة، وسؤالًا مفتوحًا لا إجابة نهائية له، وبوابةً إلى ما وراء المادة، لا مجرد توقف في عضلة القلب.
لكن الموت… ما زال لغزًا !
الموت لا تُرى خطواته، ولا تُدرَك بوادره على الحقيقة، ولا يستطيع أحدٌ، مهما بلغ علمه، أن يضع له وصفًا دقيقًا، أو تعريفًا قاطعًا، الطبيب يكتب فى شهادة الوفاة: “هبوط حاد فى الدورة الدموية”، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، لا أحد يعرف بدقة المشاهدة كيف تخرج الروح، ولا أين تذهب، ولا كيف يكون انتقالها، ولا لماذا تموت أجساد دون أخرى فى ذات اللحظة، رغم تشابه الأحوال، لا نملك من الموت إلا أثره، أما حقيقته فهي فى حوزة الغيب، ومحجوبة بحجاب القدر، لا يزيله إلا نداء السماء.
ومن هنا، تأتى المفارقة، لقد أذن الله للعلم أن يكشف أسرار البداية، لكنه حجب عنه أسرار النهاية، جعل الميلاد ظاهرًا، والموت خفيًا، ليبقى الإنسان فى امتحانٍ دائم، فالميلاد دليل على القدرة، والموت دليل على الاختيار، بداية الرحلة موهوبة من الله، ونهايتها مقرونة بقرار الإنسان، الذي يختار أن يختم حياته بنور الطائعين، أو بظلمة الغافلين.
لقد وقفت – كطبيب – أمام الموت طويلًا، رأيته كثيرًا، وعاينت آثاره فى العيون التى خبت، والقلوب التى سكنت، والأنفاس التى انقطعت، لكنى لم أقابله أبدًا على الحقيقة، لم أره، لم ألمسه، لم أستوعبه، هو يرافقني فى كل مريضٍ يحتضر، فى كل دمعةٍ تنزل على وجه أمٍ ثكلى، أو عين ابنٍ يذبل على سرير وداع والده، ومع هذا يظل الموت بعيدًا، كأن بيننا وبين فهمه حاجزًا من ضوءٍ مقدس.
من أعمق الآثار التي تركها الموت في رحلتي كطبيب قلب متخصص في حالاته الحرجة ويتعلق عمله بالموت والحياة بشكل مباشر، ذلك الأثر الذي رأيته يتجلى في لحظات النهاية لدى المشاهير وأصحاب السلطة والنفوذ، ممن كانت لهم سطوة الكلمة أو المال أو الشهرة، فقد شاهدت بأم عيني لحظات النهاية لكثير من المشاهير وأصحاب السلطة والقداسة، رأيت كيف تجردوا فى لحظة الفراق من كل ما ظنوا يومًا أنه حصنهم الحصين، لا هتاف الجماهير، ولا صيت الإعلام، ولا جلال المنصب، ولا سطوة المال، ولا حتى هيبة الوقار الديني… كان المشهد واحدًا، جسد واهن، وعين زائغة، ونَفَس يتقطع، وقلب يستعد للصمت الأخير.
هؤلاء الكبار أمام الموت بدوا كأطفال تائهين فى ظلام مفاجئ، لم تُمهلهم أضواء الكاميرات الفرصة، ولا توقفت عقارب الساعات احترامًا لأسمائهم اللامعة، بل باغتتهم الحقيقة الصادمة بلا استئذان، كنت أراهم فى أقسام الطوارئ ووحدات العناية المركزة وقد انكمشت سلطتهم، وتقلصت وجاهتهم، وصار كل ما يملكونه… سرير أبيض، وجهاز تنفس، وقلق صامت، وكانت اللحظة الأشد إيلامًا وتأثيرًا هي تلك التي تلي توقٌف القلب، حين نحاول بجهد يائس إعادة النبض إلى الجسد، فإذا ما استجاب وعاد الوعي، جلس العائد من الموت يهمس بشيء لا يقوله الطب، ولا تفهمه الأجهزة: “كنت أراكم من فوق… كنت أراكم تحاولون إنقاذي… وكنت في أنبوبة عميقة، مظلمة، تهوي بي إلى مكان تجمّع فيه كل من أحببتهم وماتوا”، تلك الكلمات تتكرر في كل موقف مماثل، تتشابه، وتتحدّر من قلوبٍ مختلفة لتروى قصة واحدة، أن للموت بابًا عبر الروح لا يراه الأحياء، وأن تلك اللحظة التى نراها نحن نهاية… قد تكون فى الحقيقة بداية أخرى لا تشبه شيئًا مما عرفناه.
حينها أدركت أن الموت لا يوقّره المجد، ولا يُرشيه السلطان، وأنه لا يصحبك إلا عملك، ولا يسندك إلا يقينك، وأنك – في لحظة النهاية – تقف مجردًا تمامًا، كما جئت أول مرة… وحدك.
ومن هنا بدأت رحلتي الأخرى، رحلة التفكير، أبحث فى الموت وكأنني أبحث فى الحياة، وأدركت – كما قال تولستوي – أن من يخطئ فهم الحياة، سيخطئ فهم الموت، وأن من لا يَعي سر وجوده، لن يفهم سر فنائه، وتساءلت كثيرًا: هل الموت هو النهاية؟ أم أنه بداية جديدة؟ وهل يجب أن نخشاه، أم نفهمه؟ وهل يمكن أن نتصالح معه؟
وبينما كنت أغوص فى تلك الأسئلة، أدركت شيئًا لم أكن أراه، أن الإنسان لا يخاف الموت لأنه مؤلم، بل لأنه مجهول، وأننا كبشر نٌعادي ما نجهله، ونخشى ما لا نفهمه، ومن هنا تأتى هيبة الموت، ليس لأنه يٌنهى الحياة، بل لأنه لا يكشف عن نفسه إلا مرة واحدة، وفى لحظةٍ لا رجوع بعدها، وهذا ما يجعل الإنسان، مهما أوتي من علمٍ أو سلطة، عاجزًا أمامه، متخشعًا أمام لحظة النهاية التى لا يملك منها مهربًا.
وكلما اقتربت من الموت أكثر، سواء كطبيب أو كإنسان، كلما تيقنت أن مواجهته لا تكون بالهرب، ولا بالإنكار، ولا بالتبلد، بل تكون بالفهم، بالتصالح، بالرفقة، نعم، وجدت أن أفضل حل لتجنب مخافة الموت، هو أن يكون الموت صديقي، أن أجلس معه، وأتأمل فكرته، وأتحدث إليه، وأتعرف على وجوده لا كعدو، بل كرفيق للطريق، تمامًا كما نستعد لاستقبال مولودٍ جديد، فلِم لا نستعد لتوديع راحلٍ قادم؟
وحين وصلت بعد رحلة البحث والتأمل إلى أن يكون الموت صديقي لا عدوي، شعرت أنني تخلصت من أكثر الأثقال رعبًا على النفس البشرية، فقبول الموت كجزء من الرحلة لا نهايتها، وكصديق لا خصم، حررني من القلق المزمن، وفتح لي بابًا من السكينة لم أعرفه من قبل، حين أدركت أن الموت ليس مجرد حدث، بل إرادة إلهية دقيقة التوقيت، محسوبة الرحمة، فهمت معنى التسليم الحقيقي، لم يعد الموت عندي خصمًا يتربص، بل رفيقًا يٌذكرني بضعفي، ويُعيدني كلما طغت نفسي إلى الاعتدال والخشوع، إن من يخاف الموت يضطرب، أما من يصادقه، فيحيا متزنًا، يزرع الخير لأنه راحل، ويتواضع لأنه فانٍ، ويستعد للقاء ربه بروحٍ مٌحبة لا مرتاعة، فصداقة الموت ليست دعوة للتقاعس، بل لحياة أعمق، وأهدأ، وأكثر توكلًا على الله الذي كتب البداية والنهاية بحكمة لا يدركها إلا من أحب لقاءه
حين قبلت فكرة أن الموت جزء من الحياة، لا نقيض لها، انقشعت كثير من المخاوف، حين سلمت بأن الموت ليس فشلًا، بل اكتمال لدائرة الوجود، لم أعد أرهبه كعدوٍ متربص، بل كمعلمٍ صامت، يذكرني فى كل لحظة بأن للزمن قيمة، وللكلمة وزن، وللحب بقاء، نعم، الموت ينهى الجسد، لكنه يُخلد الأثر، ويُنقّى النفوس، ويُعيد ترتيب الأولويات.
الموت، في جوهره، ليس نهاية فقط، بل هو أحد أعظم الأدلة على وجود الخالق، وأقواها حُجّةً على أن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يختر خروجه من الحياة كما لم يختر دخوله إليها، ففي الوقت الذى بلغ فيه العلم مبلغًا عظيمًا فى فهم الحياة، يقف صامتًا وعاجزًا أمام لحظة الموت، لا يملك لها تفسيرًا قاطعًا، ولا توقيتًا دقيقًا، ولا قدرةً على ردّها أو تأجيلها، ولو كان الأمر للإنسان، لاختار الخلود، ولأستبقي أحبابه، ولما مات نبيّ، ولا رحل وليّ، ولا دٌفن عظيم، إننا نرى القلب يتوقف فجأة بلا إنذار، ونجد الجسد القوى يُردّ إلى ضعف وذهول فى لحظة، ونشهد الروح تفلت من بين أيدينا دون أن نراها أو نمنعها، هذه اللحظة المهيبة، العابرة للقانون البشرى، تُعلن – بلا جدال – أن هناك قوةً عٌليا فوق العلم، وإرادةً مٌطلقة فوق المشيئة، ويدًا خفية تنزع الحياة كما منحتها، وتُسدل الستار حين يُكتب الفصل الأخير… وتلك اليد ليست إلا يد الله.
فى النهاية، الموت ليس ما يخيفني، بل الجهل به، وليس ما يضعفني، بل نسيانه، أما وقد عرفته، وألفت صمته، وعاينت آثاره، فقد صرت أعده رفيقًا، وبدأت أحبه – لا حبًا يدعوني إليه، بل حبًا يجعلني أتهيأ له، وأستعد… كي أصل إليه كما يصل الأحبة إلى بعضهم، فى موعدٍ معلوم، بعد اشتياقٍ طويل.