محمود عبد العزيز… الفنان الذي حول التمثيل إلى عبادة

حين يُقال اسمه، لا تستحضر الذاكرة وجهًا واحدًا، بل وجوهًا كثيرة: رأفت الهجان، الشيخ حسني، عبد الملك زرزور، العاشق، المجروح، المتمرّد، الهادئ… كلها تجتمع في رجلٍ واحد، كأنّه لا يمثّل بل يتقمّص الحياة.خرج من قلب الإسكندرية، تلك المدينة التي تكتب أبناءها بملح البحر، وأتى إلى الفن لا ليكون نجمًا عابرًا، بل ليكون جزءًا من وعينا الجماعي، من دفء الشاشة وروح الحكاية. لم يزاحم، لم يصرخ، لم يتصنّع… كان يمشي بتؤدة ويدخل الأدوار كما يدخل المرءُ في صلاة.وجه لا يُشبه سواهفي السبعينيات، بدأ خطواته الأولى في السينما، لكن عينيه كانتا تقولان ما هو أبعد من النص. لم يلبث أن صار من أعمدة الشاشة، يلوّن الشخصيات بنبرة صوته، وحركات يديه، ونظراته التي تتقن الصمت أكثر من الكلام.في العار، صار الأخ الذي لا يعرف كيف ينجو من حكاية العائلة الثقيلة. وفي الكيف، جمع بين الضحك والمأساة على طرف لسان واحد. أمّا رأفت الهجان، فلم يكن دورًا تمثيليًا فحسب، بل ملحمة وطنية صنعها محمود من نبضه، فأعاد تعريف البطولة والهدوء والمكر والكرامة.الساحر الذي لا تتكرّر عصاهلقّبوه بـ”الساحر”، ليس فقط لأنّه جسّد شخصية غامضة في فيلم يحمل هذا الاسم، بل لأنّ له سحرًا خاصًا لا يُشبِه أحدًا. ساحر في الصدق، في المزج بين الحزن والضحك، في جعلك تصدّق أنّ الشخصية من لحم ودم وليست على الورق.محمود عبد العزيز لم يكن ممثلًا يؤدي، بل كان يسكن الدور، يضيئه من داخله، ويترك فيه نَفَسه. لم يكن نجمًا “يصنع” الكاريزما، بل الكاريزما كانت تمشي خلفه في كل مشهد وكل جملة وكل سكون.حين يموت النور… يبقى الأثرحين غاب عن الدنيا، لم يغب عن قلوبنا. لم يكن خبر الرحيل سهلًا، لكننا تقبّلناه كما يُتقبّل رحيل مَن نحبّ بإيمان، وبحنين لا يخفت. فقدنا فيه وجهًا من وجوه الطمأنينة، ونجمًا لا تكرّره الأيام.لكن إرثه لا يزال حيًّا. كلما عُرض مشهد له، شعرنا أن الشاشة تُنير. كلما مرّ اسمه، ابتسمنا، وقلنا: هذا فنان حقيقي. ليس لأنّه أدّى أدوارًا كثيرة، بل لأنّه أدّى كلّ شيء بقلبه، فصار في الذاكرة مثل ضوء لا ينطفئ.الخاتمةمحمود عبد العزيز لم يكن نجمًا عابرًا، بل مدرسة في الصدق، وفنّانًا جمع بين الواقعية والسحر. أحبّ الكاميرا بصدق، فبادلته العشق. احترم جمهوره، فصار جزءًا من وجدانهم. لم يكن الأكثر ضجيجًا، لكنه كان الأعمق.واليوم، بعد كل هذه السنوات، لا نزال نقول اسمه فنبتسم. نُشاهد مشهدًا من “البرّيء” أو “إبراهيم الأبيض”، فنصمت إجلالًا. لا لأننا نذكره، بل لأننا نفتقده.