كازانوفا في سجلات التاريخ: عاشق النساء الذي تخطت شهرته آفاق الحب

في قلب القرن الثامن عشر، بين أزقة البندقية ودهاليز القصور الأوروبية، كانت تدور حكايات عن رجل لا تغلق أمامه الأبواب، ولا تقاومه امرأة مهما علت مكانتها أو اشتدت صلابتها.في ذكرى ميلاد رجل حفر اسمه في التاريخ ليس بصفته محاربا أو زعيما سياسيا، بل عاشقا، ومغامرا، ومثقفا لا يشق له غبار، اسمه جياكومو كازانوفا، الذي تحول مع مرور الزمن من مجرد إنسان إلى أسطورة، ومن سيرة ذاتية إلى رمز يتجاوز مفهوم الحب إلى مساحة أعمق من الفهم والقراءة النفسية والاجتماعية لعصر كامل.
البداية.. راهب صغير يبحث عن ذاته
ولد كازانوفا في عام 1725 في مدينة البندقية، لأسرة تعمل في المسرح، وقد كان من المتوقع له أن يسير على خطى والديه، لكنه دخل الدير في شبابه ليتدرب على الكهنوت، إلا أن طبيعته المغامرة ونزعته الحرة لم تحتمل القيود الروحية والاجتماعية للدير، فانطلق في رحلة تمرد مبكرة، طاف خلالها أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، متنقلا بين العواصم، يذوق الحياة بكل أشكالها ويختبر العلاقات بكل أعماقها.

أكثر من مجرد زير نساء
الاسم “كازانوفا” اقترن في الوعي الجمعي بالمرأة والجنس، حتى بات يستخدم في الأدب واللغة الشعبية للإشارة إلى الرجل الذي يجيد فنون الإغواء، لكن قراءة حياة كازانوفا من خلال هذا المنظور فقط تعد تقزيما لسيرة رجل كان أيضا مثقفا واسع الاطلاع، ومحاميا، ودبلوماسيا، وكاتبا ذكيا، عاش في كنف عواصم كبرى مثل باريس، ولندن، وبرلين، وكان على علاقة بكبار فلاسفة عصره مثل فولتير وروسو.كتب كازانوفا في مذكراته الشهيرة “قصة حياتي” Histoire de ma vie، التي تجاوزت الـ3000 صفحة، موثقا مغامراته العاطفية والفكرية، هذا العمل لا يعتبر فقط سجلا لعلاقاته النسائية، بل وثيقة تاريخية نادرة ترسم صورة بانورامية لعصر التنوير، بعاداته، وثقافته، ونفاقه الاجتماعي.

مغامرات لا تنتهي
تنقل كازانوفا بين الطبقات الاجتماعية بسلاسة عجيبة، كان قادرا على الجلوس مع النبلاء، ومغازلة الأميرات، وفي الوقت ذاته إقامة علاقات مع خادمات وفنانات وحتى راهبات، لم يكن وسيما على الطريقة التقليدية، لكنه امتلك لسانا ساحرا، وحضورا طاغيا، وذكاء اجتماعيا سمح له بالدخول إلى القلوب.إحدى أشهر قصصه كانت مع راهبة فرنسية تدعى “م.م”، أحبته بجنون، وهربت معه في واحدة من أكثر مغامراته تعقيدا، ولعل الأغرب من كل ذلك أنه كثيرا ما كان يقع هو نفسه في الحب، لا يرى المرأة كغنيمة بل كعالم مستقل يستحق الاكتشاف.

الهروب من سجن البندقية
لم تكن حياته مجرد حفلات ففي عام 1755 تم القبض عليه في البندقية بتهم تتعلق بالسحر والمجون، وسجن في “إيفلي”، أحد أكثر سجون الجمهورية صرامة، والذي لم ينج منه أحد من قبل لكن كازانوفا، الذي لم يعرف المستحيل، دبر خطة هروب جريئة، شق بها سقف الزنزانة وخرج منها في ليلة مظلمة، ليصبح أول وآخر من فر من ذلك السجن.
كازانوفا مرآة لعصره
رغم أنه عاش في حقبة رجولية محافظة، إلا أن كازانوفا تحدى كثيرا من التقاليد والأعراف، كان ضد الزواج القائم على المصلحة، ورأى أن الحب يجب أن يكون حرا، وأن العلاقات لا يجب أن تخضع لمقاييس المجتمع الضيقة، كما دافع عن حق المرأة في الاختيار، ووصف كثيرا من النساء اللاتي أحبهن بأنهن أذكى منه، وأكثر دهاء.في هذا السياق، لم يكن كازانوفا مجرد عابث، بل رمزا لثورة ناعمة ضد قيود الدين والسلطة والأخلاق الزائفة، تجلت في سلوكه الشخصي واختياراته الجريئة، لقد عاش كأنه بطل رواية لا يقبل النهايات المملة، ولم يسع يوما إلى الخلود بقدر ما سعى إلى العيش بشغف.

النهاية في الظل… ولكن بالحبر
في سنواته الأخيرة، وبعد أن أفلت نجمه وتقدم به العمر، عمل كأمين مكتبة في قصر ناء بتشيكيا، بعيدا عن الأضواء، لكنه استغل هذا الهدوء ليكتب مذكراته، التي لم تنشر كاملة إلا بعد وفاته، وصدمت القراء بجرأتها، وعمقها، وجمال أسلوبها.