دبلوماسية القوة العسكرية: السلوك الجديد للصين لتعزيز تأثيرها

دبلوماسية القوة العسكرية: السلوك الجديد للصين لتعزيز تأثيرها

طريق جديد تسلكه الصين لتعزيز حضورها على الساحة الدولية يتمثل في المنافسة على تصدير السلاح.أدركت بكين مبكرا أن تسليح جيوش العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حقق حضورا إمبراطوريا لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وعزز مكانة الدول الأخرى المصدرة للسلاح بنسب متفاوتة.في سبيل المنافسة على الزعامة لا تترك بكين طريقا يحقق النفوذ إلا وتسلكه. يحاول الصينيون صياغة منظومة جديدة للقدرة الشاملة من الاقتصاد إلى السلاح، ومن التصنيع إلى علوم الفضاء، ومن التكنولوجيا إلى الابتكار والمعرفة، وكأنهم في سباق مع الزمن لحجز مساحة مميزة في جبهة قيادة العالم.الحضور الصيني القوي في سوق السلاح العالمي خلال الأعوام الأخيرة ليس وليد لحظة، بل نتيجة تحولات ممتدة، تراكمت بصبر استراتيجي.حيث يصيغ الصينيون استراتيجياتهم بأفق الـ”مئة عام”، تسللت بكين إلى موقع متقدم بين كبار موردي السلاح، مستفيدة من متغيرات دولية قلبت ميزان السوق التقليدي، منها الحرب الروسية الأوكرانية واشتباكات الهند وباكستان الأخيرة.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تراجع الدور الروسي كمورد تقليدي للسلاح، بعد أن وجهت موسكو جهدها الحربي إلى الداخل، ما ترك فراغا في السوق الدولي. في الوقت ذاته، بدأت أوروبا، وعلى رأسها ألمانيا، في تعزيز قدراتها الدفاعية، موجهة إنتاجها لتلبية احتياجات داخلية. أما الولايات المتحدة، فقد وجدت في الحرب فرصة لإعادة هيكلة صناعاتها العسكرية، بينما ظلت الصين تراقب بصمت وتُخطط.اللحظة التي انتظرتها بكين طويلا جاءت على نحو مفاجئ: اشتباكات خاطفة بين الهند وباكستان، شهدت لأول مرة استخداما عمليا للطائرات الصينية في ساحة قتال مفتوحة، فتمكنت من تحييد معدات عسكرية هندية مستوردة من الولايات المتحدة وأوروبا. وفرت هذه المواجهة فرصة نادرة لتقييم فعالية السلاح الصيني أمام نظيره الغربي.
في عام 2019، وصفت وزارة الدفاع الأمريكية الصين بأنها “أسرع مصدر للأسلحة نموا”، بعدما ثبت أنها صدّرت أسلحة إلى قرابة 40 دولة خلال عقدين، بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. ومن بين أبرز زبائنها باكستان، وبنجلاديش، وميانمار، والجزائر. صادراتها لم تقتصر على الطائرات والمركبات والصواريخ، بل بدأت تتوسع تدريجيا في الدفاعات الجوية والمعدات البحرية.في عام 2020، كسرت الصين حاجز الجغرافيا وتقدمت نحو أوروبا، حين اشترت صربيا نظام دفاع جوي صيني متطور. وفي 2021، روّجت بكين لطائرتها JF-17 في الأرجنتين. لكن النقلة الكبرى جاءت في عام 2024، في معرض الدفاع العالمي بالرياض، بمشاركة 40 شركة متخصصة.وفي مصر، في سبتمبر من العام نفسه، كانت الصين تعرض للمرة الأولى في إفريقيا طائرتيها J-10 وY-20، وسط حضور عسكري ودبلوماسي رفيع، ما أعطى انطباعا بأن السلاح الصيني لم يعد هامشيا.
تشير بيانات معهد ستوكهولم إلى أن نحو 63% من صادرات الأسلحة الصينية تذهب إلى باكستان، التي اختبرت فعليا قدرات الطائرات J-10C وJF-17 وصواريخ جو-جو، إلى جانب منظومة HQ-9P للدفاع الجوي والطائرات المسيرة. ووفقا لكيث كارتر، من كلية الحرب البحرية الأمريكية، نجحت بكين في تسويق طائراتها الأقدم والأقل تطورا في السوق الدولية، مستغلة محدودية الخيارات أمام بعض الدول.الانتشار السريع للأسلحة الصينية لا يرجع لجودة المنتجات فحسب، بل أيضا بسبب الشروط الصينية “المرنة” في البيع: أسعار منخفضة، دفعات ميسرة، وقيود تشغيل أقل صرامة من تلك التي تفرضها واشنطن أو بروكسل.على سبيل المثال، طلبت الأردن مرارًا من واشنطن طائرات MQ-1 لحماية الحدود، لكن الإدارة الأمريكية رفضت، فتوجه العاهل الأردني إلى الصين واشترى طائرات CH-4.لم يكن الأردن المثال الوحيد على التعنت الأمريكي في بيع الأسلحة وفرض شروط تعجيزية في كثير من الأحيان. كثير من دول المنطقة واجهت تحفظا أمريكيا شبيها بدعوى ضمان “المستخدم الأخير” أو لاشتراطات التشغيل والصيانة وومدى إتاحة قطع الغيار وغيرها، ما فتح الباب أمام الأسلحة الصينية المتحررة من أغلب تلك القيود لتأخذ موقعها.اختبار الأسلحة الصينية في الميدان وإثبات كفاءتها القتالية غير الكثير من قواعد اللعبة القديمة. لك أن تتخيل أنه في الأيام التالية لاشتباكات الهند وباكستان، قفز سهم شركة “تشنجدو” المصنعة لطائرات J-10C الصينية، بأكثر من 40% وسط توقعات بمزيد من الطلب، كما أن شركة AVIC الصينية المتخصصة في صناعة الطيران، صعدت إلى المركز الثاني عالميًا من حيث الربحية، وزادت إيراداتها بـ15 مليار دولار. أما شركة بناء السفن الصينية المملوكة للدولة، فارتفعت إيراداتها 3 مليارات دولار في عام واحد، لتحتل المركز الثامن عالميا.
مع تشديد القيود على بيع الأسلحة التقليدية، بدأت بكين تحول اهتمامها نحو تصدير تكنولوجيا مزدوجة الاستخدام. هذه التقنيات، ذات التطبيقات المدنية والعسكرية، تشكل اليوم جوهر الدعم غير المعلن من الصين إلى روسيا منذ بداية الحرب الأوكرانية.مع تنامي هذا النوع من الصادرات، بدأت الدول الأوروبية تطرح التساؤلات الكبرى حول حجم الاختراق الصيني للصناعات الغربية. ما دفع حكومات الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في آليات الرقابة على التكنولوجيا الواردة من الصين، وحصار شركات التكنولوجيا الصينية العاملة في السوق الأوروبية وفرض مزيد من القيود على أنشطتها، لا لشيء إلا للخوف الغربي من الصعود الصيني المطرد في هذا المجال.رغم تفوق واشنطن في الكم والكيف، إلا أن الصين تراهن على صبرها الطويل واستراتيجيتها الناعمة، لا تطلب شهادات مستخدم نهائي، ولا تنخرط في معظم اتفاقيات الحد من التسلح. تقدم نفسها كبديل لا يتدخل في السياسات الداخلية للدول، ولا يملي شروطا قاسية على المشتري، وإنما يقدم منتجا كفئا بسعر مناسب دون أية مشروطيات سياسية.صحيح أن الصين لا تزال في بداية طريقها كمورد عالمي للسلاح، لكنها تتحرك بثقة وصمت. ما تفعله الآن، ليس فقط تصدير معدات، بل إعادة تشكيل الجغرافيا العسكرية للعالم، بسلاح أقل تكلفة، وشروط أكثر مرونة.