أسرار “القلب يميل لكل ما هو جميل”: محمود بيرم التونسي وكلمات قصيدته المستلهمة من الكعبة.

أسرار “القلب يميل لكل ما هو جميل”: محمود بيرم التونسي وكلمات قصيدته المستلهمة من الكعبة.

 «ملتزم، مهموم بقضايا وطنه».. هكذا بدأ المستشار «محمود بيرم التونسى» حديثه عن جده الراحل شاعر الشعب الفنان الكبير بيرم التونسى، الذى غادر الدنيا تاركًا أثرًا عظيمًا عاش وسيعيش أبد الدهر، أثرًا لو ما صنع غيره لكفاه، ألا وهو قصيدة «القلب يعشق كل جميل» التى غنتها سيدة الغناء العربى كوكب الشرق أم كلثوم، وكانت بمثابة تجربة حية لشعائر ومناسك الحج التى يتعلق بها قلوب المسلمين فى شتى أنحاء الكرة الأرضية، لتبقى القصيدة أيقونة خالدة على مر الزمان.المستشار «محمود بيرم التونسى» نائب رئيس النيابة الإدارية الأسبق، استعاد رحلة ذكريات وحكاوى عن الجد والشاعر الكبير؛ ليكشف ويفند العديد والعديد عن حياة شاعر الشعب.■ لا يمكن أن يأتى موسم الحج ويُمر دون أن يستعيد المسلمون فى كل بقاع الأرض كلمات الشاعر الكبير بيرم التونسى «القلب يعشق كل جميل».. هل لك أن تستعيد لنا ذكرياتك عن تلك الأيقونة التى لا تُنسى؟- بالتأكيد، فالقصيدة بمثابة الجوهرة التى ما زالت تزداد قيمتها بمرور السنوات، وفى كل مرة نستمع إليها نشعر وكأننا نسمعها للمرة الأولى فى حياتنا بفيض من المشاعر الوجدانية والسعادة، حيث جمعت القصيدة بين ثلاث قمم، هى: الشاعر الكبير بيرم التونسى شاعر الشعب الذى كتب كلمات بها نغم بديع، والملحن العبقرى رياض السنباطى الذى قدم مقطوعة من اللحن الصوفى تختلف بشكل كبير عن اللحن الذى صنعه سابقًا الشيخ زكريا أحمد، وتوجت تلك التوليفة سيدة الغناء العربى أم كلثوم بصوتها الشجى الذى يترك أنينًا وعلامات فى الوجدان يستحيل نسيانها، ومن وجهة نظرى أن سرًا من أسرار بقاء قصيدة «القلب يعشق كل جميل» أنها ليست كباقى الأعمال الفنية والقصائد، ولكنها صنيعة ملابسات التقى فيها تاريخ الوطن مع الظروف الشخصية والوجدانية لبيرم التونسى.■ ماذا عن تلك الكواليس التى أشرت إليها ودفعت بـ«بيرم التونسى» أن يقدم لنا مثل تلك الرائعة؟- فى عام ١٩٥٥ عندما عاد بيرم التونسى، وبعد أن نجح فى الحصول على الجنسية المصرية وجواز السفر المصرى استقر فى القاهرة وعُين محررًا فى جريدة «الجمهورية»، ثم انتقل فى زيارة للإسكندرية وجلس على أحد مقاهى شارع «محمد كرُيم» رفقة صديقه المُقرب الدكتور محمد سلامى، وحينها أخبر بيرم صديقه برغبته وشوقه لأداء فريضة الحج، وبالفعل توجها معًا عبر الباخرة من ميناء السويس إلى الأراضى السعودية لأداء الفريضة، وخلال تأديته شعائر فريضة الحج انهمرت دموعه أمام الكعبة المُشرفة، وكانت الرحلة بمثابة تجربة حية له منحته فكرة الكلمات وصياغتها التى جعلته يقدم هذا العمل البديع.■ بالتأكيد عمل فنى بقدر إبداع «القلب يعشق كل جميل» يعود نجاحه لعلاقة ود من طراز فريد ربطت «بيرم التونسى» بـ«كوكب الشرق».. ماذا يمكن أن تذكر لنا عن تلك الصداقة؟- حقيقة الأمر أن علاقة الجد بيرم التونسى مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم بدأت قبل أن يلتقيا من الأساس ويتعارفا، حيث تعلق بها بيرم من خلال استماعه أسطوانتها فى منفاه فى باريس، حيث بدأ الاستماع لقصائدها وأعمالها، وتعلق وجدانه بصوتها وروعته وأصبح من مريديها، وبدأ يُمنى نفسه بالكتابة لها وأن تغنى كوكب الشرق عملًا من كتابته، حتى تحقق حلمه فيما بعد حينما التقيا بواسطة الملحن الكبير الشيخ زكريا أحمد، ونشأت بينهما منذ تلك اللحظة علاقة صداقة توجت بقصيدة «القلب يعشق كل جميل»، إلا أن علاقة «بيرم والست» من وجهة نظرى لها طراز فريد بالفعل كما ذكرت فى سؤالك، حيث كان يميزها الاحترام المتبادل بين الطرفين، وكانت كوكب الشرق حريصة طيلة الوقت أن تسبق نداءها له بلقب «الأستاذ»، لا تنطق اسمه مجردًا أبدًا، وكانت دائمًا تصفه بأنه شخصية فنية قلما يأتى الزمان بمثلها، وبالمثل كان الشاعر الكبير يكن لها كل الاحترام والتقدير ويعتبرها درة الغناء العربى.■ ألم تتخلل تلك المودة الدائمة والعلاقة الفريدة خلافات بينهما على مدار تعاملهما؟- بالفعل حدث هذا فى حقبة الأربعينيات من القرن الماضى، حينما نشب خلاف وصل إلى حد الدعاوى فى المحاكم بين الشيخ زكريا أحمد وكوكب الشرق، حينها وقف بيرم التونسى مناصرًا ومتحالفًا مع الشيخ زكريا، وذلك بسبب اعتراض «الشيخ» على تقاضى كوكب الشرق أموالًا نظير إذاعة أغنياتها بالإذاعة المصرية، الأمر الذى جعله يطلب الحصول على نسبة من إذاعة أغنياته التى قام بتلحينها فى إطار حقوق الملكية، وهو ما رفضته أم كلثوم، حتى قام الشيخ زكريا برفع دعوى قضائية ضد كوكب الشرق، واستغرق الخلاف بين «الشيخ» و«الست» ما يزيد على ١٢ عامًا، حتى تم الصلح بينهما، ليختتم مسيرتهما معًا بأغنية هى الأشهر فى مسيرة «ثومة» التى كتب كلماتها بيرم التونسى ولحنها زكريا أحمد، وهى «هو صحيح الهوى غلاب».■ ننتقل إلى الحديث عن بيرم التونسى الجد وليس الفنان.. بيرم عاش بمنفى ومر بظروف سياسية عديدة كيف جاء إلى مصر وماذا عن كواليس حياته فيها؟- بيرم التونسى أو شاعر الشعب كما أحب أن ألقبه، من أصول تونسية كما يعلم الجميع، حتى جاء مع عائلته إلى مصر تحت مظلة الحماية الفرنسية للدول العربية التى كانت إحدى صور الاستعمار البغيض، فبعد أن احتلت فرنسا الأراضى التونسية عام ١٨٨١ تم إخضاع الرعايا من أصل تونسى ويعيشون فى مصر للحماية الفرنسية، وحين تم القبض على بيرم التونسى عام ١٩١٩ بعد اتهامه بالتحريض بأشعاره على الثورة ضد الاستعمار، تم الحكم عليه من قبل قنصل عام فرنسا فى الإسكندرية بالنفى خارج البلاد، ولما استقلت مصر عن فرنسا عام ١٩٢٢ أصبح السلطان فؤاد ملكًا على مصر، صدر قانون الجنسية المصرية وكان وقتها بيرم التونسى منفيًا خارج البلاد، ثم عاد من المنفى عام ١٩٣٨ وحينها كان النحاس باشا قد نجح فى التوقيع على اتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية، وكانت تقتضى إلغاء الحماية الفرنسية من على الرعايا التونسيين المولودين فى مصر، ولكن لظروف وجود «بيرم» فى المنفى فشل فى الحصول على الجنسية المصرية حتى منحه الرئيس جمال عبدالناصر الجنسية المصرية فى عام ١٩٥٤.■ لماذا تعرض «بيرم التونسى» لاتهامات بالعربدة وعدم الالتزام خلال حياته.. حتى إن البعض اعتبر تلك القصيدة محاولة للمصالحة مع النفس والتوبة؟- للأسف هذه الشائعات تعود لصورة نمطية زائفة ترسخت فى أذهان الناس بعد رحلة السيدة «رابعة العدوية» من حياة المجون إلى حياة الالتزام، ومن هُنا اعتقد البعض أن هذا الأمر تلقائى وينطبق على جميع الحالات، خاصة حالة بيرم التونسى لما فى القصيدة من معان روحانية وعتاب للنفس، ولكن مثل هذه الأقاويل منافية للحقيقة وبها افتراء شديد للغاية، وإن جاء بُحسن نية، فكيف يمكن لرجل عاش فى المنفى وحياته بلا ترف أو إمكانات مادية، وفى عالم أوروبى يعيش حياة المجاعات وليس كما هو الحال الآن، أن تتوافر له حياة المجون، كما أنه كان شخصية ملتزمة ومهموم بقضايا وطنه العربى، وهو ما ظهر فى قصائده المقاومة للاستعمار، ما ينفى عنه تلك الأقاويل.وثيقة حصول «بيرم التونسى» على الجنسية المصريةتنفرد «الدستور» بنشر وثيقة رسمية صادرة من الجهات الرسمية للدولة المصرية بتاريخ ديسمبر من العام ١٩٥٤، تٌفيد حصول «محمود محمد مصطفى بيرم الحريرى» وشهرته «بيرم التونسى» على الجنسية المصرية بناءً على طلب قدمه الشاعر الكبير للسلطات المصرية، بعد عودته من المنفى فى باريس إثر صدور حُكم بنفيه من مصر من قبل القنصل الفرنسى؛ بسبب قصائده ودعوته للثورة ضد المستعمر الفرنسى عام ١٩١٩.