من نشرة رئاسة التلفزيون: قصص من مذكرات “سيدة ماسبيرو” تماضر توفيق

في مثل هذا اليوم، 8 يونيو رحلت عن عالمنا واحدة من أعلام الإعلام المصري، وهى القديرة تماضر توفيق التي لقبت بـ”سيدة ماسبيرو الأولى” كونها أول امرأة تتولى رئاسة التليفزيون المصري وأول مذيعة تطل على الشاشة الصغيرة عند انطلاق البث الرسمي عام 1960، كانت نموذجا فريدا للريادة النسائية ومزيجا من الثقافة والوعي والانضباط والشغف تركت أثرا بالغ العمق في تاريخ الإعلام المصري والعربي.ولدت تماضر في مدينة السنبلاوين بالدقهلية في 9 فبراير 1921، وسط بيئة ريفية أصيلة زرعت فيها القيم والانتماء للوطن منذ نعومة أظافرها، كانت متعددة المواهب والاهتمامات، وورثت عن والدها التفوق في اللغتين العربية والإنجليزية، حصلت على شهادة الثقافة عام 1936، ثم التوجيهية في العام التالي، وتخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) عام 1942 بتقدير امتياز.منذ أيام الدراسة، كان المسرح يشغل قلبها وعقلها، فشاركت في فريق المسرح الجامعي، ثم انضمت لمسرح الأوبرا القديمة، وهناك صقلت موهبتها الفنية، وهو ما ساعدها في ما بعد على تقديم البرامج والتمثيليات الإذاعية ببراعة لافتة، بدأت حياتها المهنية صحفية في وكالة الأنباء المصرية، لكنها سرعان ما اتجهت إلى الإذاعة، بدعوة من الإذاعي محمد فتحي، لتصبح في عام 1946 أول سيدة تقرأ نشرة الأخبار في الإذاعة المصرية.تألقت تماضر في العمل الإذاعي، وكانت صوتا حاضرا ومميزا، وكونت مع زميلاتها مثل صفية المهندس فريقا للتمثيل، قدم قصصا عالمية باللغة الإنجليزية على مسرح الأوبرا، في عام 1951 انتدبتها هيئة التليفونات لتسجيل “الساعة الناطقة” بالسويد وسافرت في بعثة إلى هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) لدراسة الفن الإذاعي، لتصبح أول مذيعة مصرية تتلقى هذا التدريب الدولي، قبل أن تعود وتعين رئيسة لقسم التمثيليات بالإذاعة.خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت تماضر توفيق في طليعة الأصوات الإذاعية التي أثرت في المستمعين، وابتكرت برامج متنوعة تجمع بين الثقافة والتسلية، أبرزها “ورقة وقلم” و”عشرين سؤال”، اللذان حملا طابعا جماهيريا وشعبية واسعة، ومن مواقعها المختلفة بالإذاعة كمراقبة البرنامج الأوروبي، ومراقبة التنفيذ، ثم مساعد المراقب العام، كانت صاحبة بصمة واضحة في تطوير المحتوى الثقافي.في عام 1957، وقبل انطلاق التليفزيون بثلاث سنوات، اختيرت للسفر إلى الولايات المتحدة ضمن أول بعثة مصرية لدراسة الفن التليفزيوني، وسافرت مرة ثانية عام 1960 لدراسة الإخراج التليفزيوني، لتصبح بعد عودتها أول مخرجة تليفزيونية مصرية، ومع انطلاق البث الرسمي أصبح وجهها أحد أشهر الوجوه الإعلامية، وقدمت البرنامج الشهير “وجها لوجه”، الذي تميز بالجرأة والموضوعية في مناقشة قضايا المجتمع.ويحسب لتماضر توفيق أنها أدركت مبكرا قيمة التليفزيون كأداة تأثير وتثقيف، فكانت رائدة في إرساء قواعد الثقافة التليفزيونية، وأسهمت في تأسيس القناة الثالثة كقناة شبه متخصصة، جذبت أبرز الكتاب والمفكرين ليكونوا مقدمي برامجها وضيوفها، تولت العديد من المناصب المهمة في ماسبيرو، منها مراقبة البرامج التعليمية والثقافية، مديرة للتخطيط والمتابعة، ووكيلة التليفزيون لشؤون البرامج.وفي يونيو 1977، أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة التليفزيون المصري، واستمرت في المنصب حتى عام 1985، أي نحو ثماني سنوات، حققت فيها الكثير من الإنجازات، أبرزها دعم البرامج الثقافية، وضم كوادر واعدة إلى شاشة التليفزيون، منهم سناء منصور، ونادية صالح، وفاروق شوشة، الذين أصبحوا لاحقا من رموز الإعلام الثقافي في مصر.ولم يمنعها انشغالها الإداري من متابعة شغفها بالثقافة، فقد ترجمت للقارئ العربي ثلاثة كتب تعد من المراجع المهمة: “العمل التليفزيوني”، و”فن التليفزيون”، و”التليفزيون وأثره في حياة الأطفال”، لتسهم بذلك في سد الفجوة المعرفية حول الإعلام المرئي الناشئ آنذاك.ومن أبرز محطاتها الإعلامية أيضا، تحقيقها سبقا صحفيا بلقاء تلفزيوني نادر مع رائد الفضاء الروسي يوري جاجارين عام 1962 أثناء زيارته لمصر، في حوار عرض ضمن برنامج “وجها لوجه”، لتكون بذلك أول إعلامية عربية تجري حوارا مع شخصية فضائية عالمية.ورحلت تماضر توفيق عن عالمنا في 8 يونيو 2001، عن عمر ناهز 81 عاما ورثاها الكاتب أحمد بهجت في عموده “صندوق الدنيا”، قائلا إنها لم تكن مجرد مسؤولة إدارية، بل كانت روحا حية بثتها في جسد التليفزيون الوليد، أما الشاعر فاروق شوشة، الذي رافقها في مسيرتها، فكتب عنها في “الأهرام”:”لم تكن كغيرها من الرائدات، فهي أكثرهن وعيا واستنارة، وأكثرهن جرأة وشجاعة في قول الحق، وأكثرهن إيمانا بالعقل، وانتماء للوطن، ورفضا للمجاملات والنفاق”.