كشكش بيه في البرازيل: من التهكم إلى فيفا ريحاني

دوّن نجيب الريحاني في مذكراته واحدة من أغرب رحلاته إلى أمريكا الجنوبية التي بدأها هو وفرقته بخوف وقلق، بعد أن أوشكوا على فقدان الأمل في النجاة وسط المحيط، ظنا منهم أن الله اختارهم طعاما لأسماك البحر الجائعة، غير أن الباخرة أبت إلا أن تكمل طريقها، حتى وصلوا إلى مدينة “سانتوس” البرازيلية، التي أنستهم بجمالها ما عانوه من عذاب في البحر.بمجرد نزولهم من الباخرة، قابل الريحاني رجلًا ضخما يشبه التمثال، اتضح لاحقا أنه سوري الأصل يعمل في استقبال السياح، وما إن أخبره الريحاني أنه “كشكش بك” حتى رد باستخفاف: “شو بيكون كشكش هيك… مغنواتي؟”، فكانت بداية لا تبشر بخير، لكنها لم تزعزع من عزيمته.
نزلت الفرقة التي ضمت بديعة مصابني وابنتها “جوجو” والممثلين محمود التوني وفريد صبري في أحد الفنادق وقرر الريحاني الخروج لاستكشاف المدينة والبحث عن فرصة عمل، سانتوس بدت له أقرب لقرية صغيرة منها إلى مدينة في أمريكا، لكنه التقى هناك بمدير فندق سوري آخر، وحين قدم له باسم “كشكش بك” أنكر أنه هو نفسه الذي رآه في حمص العام الماضي، لأنه كما قال “كان له لحية”، بينما الريحاني ليس لديه لحية، وأخيرا اقتنع الرجل بعد أن شرح له نجيب أن “اللحية كانت جاهزة”، ووعده بتنظيم حفلة مساء في الفندق.حين جاء وقت العرض، فوجئوا بجمهور راق من سيدات ورجال المجتمع، ينتظرون فرقة غنائية من مصر، ولم يكن بين الريحاني وفرقته من يجيد الغناء بحق، فاهتدى إلى أن تتولى بديعة الغناء وهم يشاركونها كمذهبجية وبالفعل، غنت بديعة بعض المقطوعات الوطنية، ورددوا خلفها كفرقة تخت شرقي، فنجحت الحفلة بشكل كبير، لدرجة لم يتوقعوها.

نصحهم بعض المقيمين بالتوجه إلى مدينة “سان باولو”، الأكثر حيوية وعشقا للفن، فشدوا الرحال إليها في نوفمبر عام 1924 كانت سان باولو مختلفة كليا، مدينة ضخمة حديثة، يسكنها عدد كبير من الجالية السورية النافذة في التجارة والصناعة، نزلوا في فندق كبير، وفوجئوا بأن خبر وصولهم سبقهم، حيث كان في استقبالهم أكثر من خمسمئة شخص من الجالية، رحبوا بهم بحرارة وطلبوا منهم عرض مسرحياتهم.أوضح الريحاني أن رحلتهم ليست فنية وأنهم لم يحضروا فرقة تمثيل، لكن تم طمأنته بأن في المدينة جمعية للهواة، على رأسها شاب اسمه جورج أستاتي، نجل ألمظ أستاتي، الممثلة المعروفة سابقا بفرقة جورج أبيض، المدهش أن جورج كان يؤدي أدوار الريحاني باسم “كشكش البرازيلي” كما علم أن هناك ممثلا آخر بالأرجنتين يدعى جبران طرابلسي اتخذ اسم “شكشك بك”، أي أنه “قلب الاسم”

استعان الريحاني بالهواة من الجمعية، مستفيدا من أنه جلب معه نصوصا لعدد من مسرحياته، منها “ريا وسكينة” و”البرنسيس” و”أيام العز” (التي أُعيد تسميتها إلى “حلاق بغداد”)، لكنه واجه فتورا من الصحافة البرازيلية، بخلاف حفاوة صحافة الجالية السورية، وعلم أن هذا البرود كان بسبب النزاع بين السوريين وسكان البلاد الأصليين، بسبب هيمنة الجالية على الاقتصاد.رغم الجو المكهرب، استأجر الريحاني المسرح لأربع ليال، بواقع خمسين جنيها في الليلة، وألقى بنفسه في العمل مع الهواة لأداء البروفات كانت المخاطرة ضخمة، فإما النجاح الساحق أو الفشل المدوي، ولما اقترب موعد العرض، علم أن الإيرادات وصلت لألفي جنيه، فازداد خوفه.

ليلة العرض، أطل من كواليس المسرح ليرى القاعة ممتلئة بأرقى الحضور من الرجال والسيدات، تلمع حليهم تحت الأضواء، مثلت الفرقة “ريا وسكينة” أولا، وسط صمت مهيب، ثم بدأت مسرحية “البرنسيس” بظهور بديعة أولا، ثم الريحاني. شعر برهبة كأنه يمثل لأول مرة، لكنه تماسك، وعند ختام الفصل الأول، دوى التصفيق والهتاف تدفق الصحفيون والمهنئون من كل حدب وصوب، واحتفى بهم الجمهور احتفاء كبيرا، شعر الريحاني أن السوريين فخورون بالمصريين، وأدرك أن العرض أعاد للجمهور البرازيلي الثقة بالفن الشرقي.بعد هذا النجاح، ارتفعت مكانة الفرقة في سان باولو، وتجلى ذلك حين دعاهم نادي “سبورتنج كلوب” لمباراة كرة قدم بحضور عشرين ألف متفرج، وما إن ظهرت بديعة والريحاني حتى تعالى هتاف الجماهير “فيفا ريحاني”، وتعني “يحيى الريحاني”، وشاركت فيه كل المدرجات، السورية والبرازيلية.

لاحظ الريحاني الحراسة المشددة في الملعب، بسبب التوتر بين الجانبين، الجند بالسلاح يفصلون السوريين عن البرازيليين، منعا لأي شجار، لكن الريحاني نجا من هذا الانقسام، فقد أحبه الجميع، وقال مازحا إنه شعر وكأنه رئيس جمهورية البرازيل أو فاتح مالطة.