الغياب الفعلي: تحليل تاريخي لرؤية فرج فودة العقلانية

يعد كتاب “الحقيقة الغائبة” للمفكر المصري الراحل فرج فودة من أبرز الكتب التي أثارت جدلًا واسعًا في العالم العربي، وذلك لما يحتويه من تحليل تاريخي جريء يواجه الدعوات المتكررة لاستعادة “الخلافة الإسلامية” ويكشف ما يعتبره المؤلف زيفًا تاريخيًا وتزييفًا ممنهجًا للوقائع.
فرج فودة
الكتاب، الذي صدر في أواخر الثمانينيات، لم يكن مجرد عمل أكاديمي تقليدي، بل كان مواجهة فكرية مباشرة، تستند إلى قراءة دقيقة للمصادر التاريخية المعتبرة، ليطرح من خلالها فودة رؤية مختلفة تتحدى الروايات الشائعة التي تُستدعى لخدمة أهداف سياسية.
التاريخ ليس حكرًا على أحدمنذ الصفحات الأولى، يوضح فودة بوضوح أنه لا يدّعي التخصص الدقيق في التاريخ الإسلامي، لكنه، كما يقول، قارئ بأناة، ومحلل بصبر، وموثّق بدقة، وناقد بمنطق، هذا التصريح لم يكن تواضعًا بقدر ما هو تأكيد على أن مراجعة التاريخ ليست حكرًا على فئة دون غيرها، خصوصًا حين يصبح أداة في يد التيارات التي تسعى إلى فرض رؤيتها على الواقع باسم الدين.ويؤكد فودة أن معظم ما يستند إليه دعاة الخلافة الحديثة من مصادر ومراجع، هي ذاتها التي عاد إليها في كتابه، ولكن الفرق – كما يقول – هو في طريقة الفهم والطرح والتأويل.
الإسلام… بين الجوهر والمظهرينتقد الكاتب بشكل حاد الخطابات التي تصف المجتمعات العربية، والمجتمع المصري تحديدًا، بأنها “جاهلية” أو بعيدة عن الإسلام، معتبرًا أن ذلك افتراء يتنافى مع الواقع التاريخي والاجتماعي، ويشير إلى أن مصر، على وجه الخصوص، هي من أقرب المجتمعات إلى جوهر الإسلام، عقيدة وسلوكًا، لا مظاهر وشكليات.ويدعم هذا الطرح بقراءة فكرية تمتد حتى إلى المعتقدات الفرعونية القديمة، ليؤكد أن المصريين عبر العصور عرفوا التديّن بمعناه القيمي، وليس من باب الاستعراض أو الفرض القسري.تفكيك أسطورة “الخلافة الراشدة”أخطر ما يتناوله فودة في كتابه هو محاولة تفكيك ما يُسمى بـ”العصر الذهبي” للخلافة الإسلامية، حيث يُعيد النظر في العديد من الوقائع التاريخية، بدءًا من الخلافات الكبرى بعد وفاة الرسول ﷺ، ومرورًا بالفتن الكبرى، واغتيال الخلفاء، وانتهاءً بتحوّل الخلافة إلى نظام ملكي وراثي.ويقول فودة إن أولئك الذين يدعون اليوم إلى العودة لهذا النموذج، يتجاهلون عمدًا الدماء والانقسامات والصراعات السياسية التي رافقت هذا العصر، موضحًا أن التاريخ لا يمكن قراءته بانتقائية، ولا يمكن تجميله على حساب الحقيقة.الإسلام دين تقدم… لا أداة سلطةيرى فودة أن استدعاء الدين إلى ساحة السياسة لا يخدم الإسلام، بل يُسيء إليه، ويؤكد أن الإسلام، في جوهره، دين يحضّ على السماحة، والتفكير، والتقدم، والحوار، بينما يسعى بعض التيارات المتشددة إلى تقديمه في صورة أيديولوجيا مغلقة تقوم على القمع والإقصاء.ويُصر الكاتب على أن ما يفعله هؤلاء لا علاقة له بروح الإسلام، بل هو توظيف سياسي له، يتعارض مع مبادئه الأصيلة التي تدعو إلى الشورى والتعددية والعدالة.كتاب كشف المستور.. وكلف صاحبه حياتهيحمل عنوان “الحقيقة الغائبة” دلالة رمزية عميقة، إذ يعتبره فودة ردًا مباشرًا على حملات التزييف التي مارستها بعض التيارات الإسلامية، من خلال انتقاء أحداث معينة من التاريخ، وتجاهل أخرى أكثر تأثيرًا وخطورة.وقد أحدث الكتاب صدمة فكرية في الأوساط الثقافية والدينية، ولاقى انتشارًا واسعًا بين النخب والقراء، لكنه في الوقت ذاته أثار غضبًا شديدًا في صفوف المتشددين، حيث اعتُبر تهديدًا مباشرًا لصورتهم المثالية عن الماضي الإسلامي.وبعد صدور الكتاب بسنوات قليلة، وتحديدًا في 8 يونيو 1992، تم اغتيال فرج فودة أمام مكتبه في حي مصر الجديدة بالقاهرة، على يد متطرف ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلامية، اعترف لاحقًا بأنه لم يقرأ شيئًا من كتب فودة، بل اعتمد فقط على فتاوى التكفير.إرث لا يموترغم مرور أكثر من ثلاثين عامًا على صدور الكتاب، ما زال “الحقيقة الغائبة” يُقرأ على نطاق واسع، خاصة بين الشباب والباحثين عن فهم عقلاني للتاريخ والدين. لقد أصبح الكتاب – وصاحبه – أيقونة لفكرة مقاومة الفكر الظلامي، والانتصار للعقل، والحرية.وفي وقت تعود فيه دعوات الخلافة وتُرفع فيه شعارات لا تختلف كثيرًا عن تلك التي واجهها فودة، تبقى كلماته أشبه بوصية فكرية مفتوحة: “التاريخ لا يُروى ليُمجَّد، بل ليُفهم، ويُنقد، ويُنير الطريق للمستقبل”.