مظاهر التناقض بين قانون الفتوى والدستور

في الوقت الذي يتطلع فيه المجتمع المصري إلى ترسيخ قيم المواطنة، وسيادة القانون، والتعددية الفكرية، يأتي قانون تنظيم إصدار الفتوى العامة، ليشكل انتكاسة خطيرة على أكثر من صعيد وصدمة كبيرة لمستقبل الحياة المدنية في مصر. لم أكن أتوقع التصديق على مشروع هذا القانون، الذي اوقعنا في منزلقات تمس جوهر النظام الدستوري للدولة. أهدي مقالي هذا للإدارة المصرية المؤتمنة على الدستور والمنوط بها حماية مدنية الدولة، للتذكير بمواد الدستور التي أهدرها هذا القانون.1- تبديل سيادة الشعب (المادة 1)تنص المادة الأولى على: “السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها”، وقانون الفتوى هذا يجعل السيادة لهيئة كبار العلماء المعينة بدون إرادة شعبية، من قبل نفسها، ولا تخضع لرقابة البرلمان أو غيره. 2- نقض سيادة القانون لصالح سلطة الفتوى (المادة 94)حيث ينص الدستور في المادة 94 على أن “سيادة القانون هي أساس الحكم في الدولة”، والقانون هو قاعدة عامة مجردة يخاطب عموم الشعب. لكن قانون الفتوى يختص بالمسلمين من الشعب دون المسيحيين وغيرهم، كما يهدم الطبيعة القانونية التي تتطلب ألا نحاسب الناس على أمر الا بعد صدور قانون يحرمه أو يجبر عليه، أما الفتوي فهي رأي مرتجل يحكم على ما سبق فعله أو ما يزمع فعله، وتطبيقها يفترض أثرا رجعيا يخالف طبيعة القانون.3- تقييد حرية الفكر والتعبير (المادة 65)يُجرم المشروع من يُدلي برأي ديني أو فقهي دون تصريح، وهو ما يمثل عدوانًا صريحًا على حرية الرأي والفكر، ويُدخل المجتمع في دوائر الرقابة الدينية على الآراء، في مخالفة مباشرة للمادة 65 من الدستور.4- تقويض مدنية الدولة (ديباجة الدستور والمادة 200)حيث تنص ديباجة الدستور على أن “الحكومة مدنية” وتنص المادة 200 على أن من مهام القوات المسلحة “الحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها” وقانون الفتوى يستهدف المسلمين مما يجعل الدولة دينية أو طائفية لا مدنية. 5- إخضاع المسيحيين لغير شرائعهم الدينية (المادة 3)حيث تنص المادة الثالثة على:” مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية” وقانون الفتوى الصادر باسم الشعب يشمل المصريين المسلمين والمسيحيين، بما أن صدوره كان بتصويت النواب المسلمين والمسيحيين. بالإضافة إلى أنه لا يوجد تمثيل مسيحي في هيئة كبار العلماء. 6- تكافؤ الفرص (المادتان 4 و9)حيث تنص المادة الرابعة على الوحدة الوطنية القائمة على: ” مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين”، وتنص المادة 9 على أنه: ” تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز”، وقانون الفتوى يهدم مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الحاصلين على درجة الدكتوراه أو المتخصصين في علوم الفقه والفقه المقارن والقواعد الفقهية، فقد اختص منهم من يحوز على رضا القائمين على هيئة كبار العلماء، أو دار الإفتاء، أو مجمع البحوث الإسلامية.7- حرية الفكر والرأي (المادة 65)حيث تنص المادة 65 على: ” حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”، وقانون الفتوى يمنع تلك الحرية الدستورية، بل ويجرمها. 8- استلاب اختصاص النيابة العامة في تحريك الدعوى، فضلا عن فرض عقوبات سالبة للحرية في جرائم الرأي (المادة 67)حيث تنص المادة 67على أنه: “لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري”، وقانون الفتوى يجعل تحريك الدعوى لهيئة كبار العلماء لا للنيابة العامة، كما يوقع عقوبة سالبة للحرية لمجرد النشر أو الابداع.9- التمييز بالدين والجنس وهدم مبدأ المساواة (المادة 53)حيث تنص المادة 53 على أن: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر”، وقانون الفتوى يعيد الطبقية المقيتة، وذلك بخضوع الشعب لفتوى هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء المصرية، من أوجه عديدة، منها عدم محاسبة تلك الهيئات عن كل ما يفتون به في الوقت الذي يُحاسَب فيه الشعب عن مخالفة فتاواهم، ومنها عدم مشاركة المرأة والمسيحيين في عضوية هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية ودار الافتاء.10- حرية العقيدة وممارسة الشعائر (المادة 64)حيث تنص المادة 64: “حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون”، وقانون الفتوى يمنع إطلاق حرية العقيدة كما يمنع حرية ممارسة الشعائر الدينية وفق اختيار المواطن، وذلك بإلزام المواطن اتباع الفتوى وليس اتباع ما يعتقد في دينه.11- السيادة على البرلمان واختطاف سلطته (المادة 101)حيث تنص المادة على أنه: ” يتولى مجلس النواب سلطة التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية”، وقانون الفتوى يمنع البرلمان من إصدار أي قانون دون موافقة هيئة كبار العلماء، كما يوجب على البرلمان اعتماد فتاوى هيئة كبار العلماء كقانون ملزم، وبهذا يكون البرلمان في حكم السكرتير لكل فتوى تصدرها هيئة كبار العلماء، كما يلزم القانون البرلمان أن يعرض جميع القوانين المعمول بها على هيئة كبار العلماء لاعتمادها أو تغييرها. 12- اختطاف اختصاص المحكمة الدستورية في تفسيرها لمبادئ الشريعة الإسلامية: (ديباجة الدستور)حيث تنص ديباجة الدستور على أنه: “وأن المرجع في تفسيرها (مبادئ الشريعة الإسلامية) هو ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن”، كما تنص المادة 192 على أن: ” تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين، واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية”، وقانون الفتوى يجعل كل تفاسير مبادئ الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في قبضة هيئة كبار العلماء وليس من اختصاص المحكمة الدستورية العليا. 13- هدم حرية الصحافة والنشر (المادة 71)حيث تنص المادة 71 على أنه: “يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الاعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها”، وقانون الفتوى يمنع تلك الحرية في الصحافة والنشر ويجرم نشر أي رأي أو فتوى من عامة الشعب، بعد تحديد الهيئات واللجان الافتائية بأسمائها دون غيرهم. وقد يُعاقب إعلاميون وكُتّاب وفقهاء بمجرد نقل رأي فقهي مختلف أو عرض رأي مجتمعي خارج “الفتوى الرسمية”.14- هدم الاجتهاد والابداع ومنهج التفكير (المواد 67 و19) حيث تنص المادة 67 على أن: “حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة”، والمادة 19 على أن: “التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية”، وقانون الفتوى يجرم أي ابداع فكري من غير الهيئات المنوطة بالفتوى كما يمنع على الشعب منهج تنمية المواهب والابتكار. خلاصة الأمر:إن مشروع قانون تنظيم الفتوى ليس مجرد تنظيم إداري، بل يُشكل خطرًا حقيقيًا على مدنية الدولة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، ومبدأ المواطنة. إنه قانون يُعيد إنتاج السلطة الدينية المغلقة، ويهدم مكتسبات دستورية طالما ناضل المصريون من أجلها.لذا، وجب أن نعلن موقفنا منه بكل وضوح، حماية للدستور، وصونًا لحرية الفكر والاجتهاد، وضمانًا لوحدة الوطن وتعدديته، وايمانا بتفويض الدين لله، الذي يعلم السر وأخفى. والله من وراء القصد، وقد أعذرنا لله.