لا أحد في منأى عن التاريخ، وربيع واشنطن في الطريق!

لا أحد في منأى عن التاريخ، وربيع واشنطن في الطريق!

كانت الولايات المتحدة الأمريكية ولعقود طويلة، تقف على منصة “الأستاذية السياسية” تُحاضر على العالم في دروس الديمقراطية، وتوزّع شهادات الصلاحية للأنظمة والشعوب، بل وتنتقي متى تجوز الثورة ومتى يجب قمعها، وهي لا تخجل من فتح ملفات الحريات في الشرق الأوسط كما يفتح الجرّاح جسدًا غريبًا، ليس بهدف الدفاع عن الإنسان بل لتترك تلك الشعوب ممزقة وأوطانها مفككة، وكأنها كانت تمارس “الهندسة الأخلاقية” من مسافة آمنة.ليس هذا رجم بالغيب، أو اتهام للسياسة الأمريكية بما ليس فيها، بل كل الشواهد تؤكد ذلك بعين اليقين، ويبدو أن الزمن قد استدار في دورته، وأن الدوائر بدأت تضيق على من رسمها لغيره.في مشهد لم يعد استثنائيًا، تدخل مدينة لوس أنجلوس – إحدى رموز الحلم الأمريكي – في ولاية كاليفورنيا يومها الخامس من الاحتجاجات والمواجهات،على وقع اضطرابات اجتماعية وأمنية غير ومسبوقة، واحتجاجات واسعة النطاق، وغضب شعبي متصاعد، وشارع يضج بالغليان… لا على خلفية حادث عابر، بل نتيجة تراكمات من الاحتقان، والإحساس بالظلم، وانعدام الثقة بين الشعب ومؤسساته.جاء ذلك مع تصاعد سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وغطرسته الصارمة في تطبيق قوانين الهجرة وترحيل المهاجرين غير النظاميين، دون إجراءات استباقية مسبقة، وعلى أثر ذلك اندلعت المظاهرات والاحتجاجات، وسرعان ما تحولت إلى مواجهات أمنية بعد اعتقال السلطات الفيدرالية لعدد كبير من المهاجرين غير نظاميين في أحياء مختلفة في لوس أنجلوس، وذلك بهدف ترحيلهم فجأة، ثم تحول  المشهد إلى أزمة دستورية بين ترامب وولاية كاليفورنيا، وهي الولاية التي يقودها حاكم ديمقراطي من الحزب المناهض والغريم الأقوى لحزب ترامب الجمهوري، والتي خاضت منذ بداية ولاية ترامب الثانية مواجهات مع إدارته حول قضايا خلافية على رأسها قضية المهاجرين غير النظاميين.والأخطر أن تعامل الدولة – ممثلة في إدارة ترامب ومن خلفها مؤسسات الأمن الفيدرالية – لم يكن ديمقراطيًا ولا رشيدًا، بل شديد القسوة. فقد تم استدعاء قوات من الحرس الوطني، بل وحتى وحدات من مشاة البحرية (المارينز)، إلى شوارع المدينة لقمع المتظاهرين، تحت ذريعة “حفظ النظام”، وهي الذريعة نفسها التي طالما رفضتها واشنطن حين استخدمتها دول عربية للدفاع عن سيادتها واستقرارها.والأغرب أن دونالد ترامب الذي يرفض المهاجرين إلى أمريكا، ويعمل الآن على ابادتهم واقتلاع جذورهم من الأرض الأمريكية، هو نفسه الذي حاول أن يضغط على مصر والأردن لاستقبال نحو 2.5 مليون فلسطيني من سكان غزة في مخطط دنيء لتهجيرهم من وطنهم لصالح الاستعمار الصهيوني القبيح… فأي انفصام في شخصية هذا الترامب المريض؟!إن ترامب، وفي محاولة منه لإثبات فشل إدارة حاكم الولاية الديمقراطي، لم يتردد في استخدام أدوات الدولة الفيدرالية لإظهار القوة، لا لاحتواء الأزمة، بل لاستثمارها سياسيًا، فالرجل الذي صعد على ظهر الانقسام، لا يزال يراه وقودًا انتخابيًا، وهو من يجيد استخدام فرص البيزنس والتجارة في اللعب السياسي والاتجار بمصائر الشعوب.لقد أطلق ترامب تصريحات تتوعد المحتجين، وهدد الحكومات المحلية، بل وصف المتظاهرين بـ”الرعاع والفوضويين”، مستخدمًا نفس القاموس الذي كان يدين استخدامه في العالم الثالث، وما بين سطور القمع، نجد مؤشرات الانهيار الصامت التي بدأت في حصار سياسات ترامب الشاذة، فقد تعمق انعدام الثقة بين المواطن والشرطة، وتراجعت قدرة الدولة الفيدرالية على إدارة الأزمات قبل اشتعالها، وتفكك خطاب الوحدة الوطنية، لصالح شعارات حزبية استقطابية أوقدها ترامب بصب الزيت فوق كل نار.إن ما تشهده أمريكا اليوم في لوس أنجلوس ليس حدثًا عابرًا، ولا مجرد توتر محلي، بل هو علامة فارقة على تشكُّل أزمة هوية سياسية واجتماعية في دولة لطالما اعتبرت نفسها نهاية التاريخ وذروة النضج الديمقراطي، وبات الآن واضحا أن الدولة التي كانت تدخل عواصم الآخرين بدعوى تحريرهم من “الطغيان” و”الفساد”، باتت تتعامل مع مواطنيها بلغة العسكرة والخنق الأمني، وفي ذلك مفارقة مريرة لا تمر مرور الكرام لدى شعوب دفعت الثمن حين آمنت بوعود واشنطن الزائفة، ثم تُركت في فراغ مدمر.إن ما لم تدركه النخبة الأمريكية بعد، أن التاريخ لا يمنح حصانةً لأحد،والإمبراطوريات، وإن علت، تنهار من داخلها حين تستبدل العدل بالبطش، والحوار بالقمع، والوحدة بالاستقطاب… وهذا تمامًا ما يُرى اليوم في الداخل الأمريكي، ويبدو أن ترامب قد عاد من جديد لإسقاط الولايات المتحدة وتفكيكها.لقد جسد ترامب بسياساته منذ اليوم الأول للطبقية السياسية المتوحشة، وأجج نقاط الضعف في العنصرية الكامنة لتقوى وتشتعل مع كل أزمة، وأغرق النخب السياسية في أمريكا في معارك حزبية شرسة تهدد في كل وقت باندلاع الحرب الأهلية، ثم مهد لمجتمع تتسع فيه الهوة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون حتى الأمل.إن دونالد ترامب..  رئيس يعبث بتماسك الدولة الأمريكية، دون رادع قانوني أو أخلاقي، ولا يجب أن يٌترك له العالم ليدمره بغبائه السياسي كما يدمر أمريكا الآن، فهو الرئيس الذيسيبدأ الربيع الأمريكي على يديه،والذي يبدو أنه سيرسم خريطة تقسيم جديدة للبلاد،وهو يدمر كل من حوله، ثم يتعامل معه كأنه هو من تأذى والمصيبة أنه يصدق نفسه! لقد أصبحت فكرة الانقسام وتفكيك الدولة الفيدرالية،ليست مجرد وصف تحليلي، بل احتمال سياسي، فهناك اليوم حديث جاد داخل أوساط أكاديمية وسياسية أمريكية عن سيناريوهات الانفصال المحلي والاستقلال، خاصة في ولايات مثل كاليفورنيا، وتكساس، ونيو هامبشاير، وألاسكا، ولويزيانا، وفلوريدا،إذ باتت تشعر هذه الولايات بأن اتحادها الفيدرالي لم يعد ضامنًا للعدالة ولا ملبيًا للطموح.أمريكا اليوم، لا تحتاج إلى أعداء خارجيين لتمارس نرجسية القوة، فخطرها الأعمق يأتي من داخلها، ويقود هذا الخطر الآن من قلب البيت الأبيض في واشنطن رجل جاوز الزمن والتاريخ والحضارة والعقل وكل نظريات المنطق، من خلال نرجسية تقترب به من عنبر الحالات الخطرة في أحد المصحات العقلية.هذا هو السيناريو الذي دعمته الإدارات الأمريكية في عواصم عربية عديدة، وبدأت خيوطه تُنسج على أرضها، ولوس أنجلوس تحترق، والشارع غاضب، والمؤسسات الأمنية تتغول، وخطاب سياسي يزداد شعبوية وتطرّفًا، وحاكم الولاية يهدد بالاعتقال.لست هنا في مقام الشماتة، فمصير الشعوب لا يُفرِح في مأساته، لكننا في مقام التذكير، أن من يحفر الحفرة لغيره، عليه أن يتأكد أولًا من ثبات الأرض تحت قدميه، والولايات المتحدة، إن أرادت النجاة، فعليها أن تُصغي لصوت الداخل، لا أن تقمعه. وأن تعيد تعريف نفسها بوصفها “دولة مواطنين”، لا “إمبراطورية على الهامش”.إن دروس التاريخ لا تتغير، فقط الوجوه والعناوين هي من تتغير!لعل في هذا الاضطراب درسًا، ولعل فيما يجري الآن، تذكيرًا أن الحرية لا تُصدَّر، بل تُبنى، وأن الشعارات، حين لا تسندها العدالة، تتحول إلى قنابل موقوتة في قلب من أطلقها.