لا تتجاوزوا حدودكم مع مصر

لم تكن مصر في يوم من الأيام إلا رمانة الميزان في الصراع العربي–الإسرائيلي، ولا كانت إلا السند والداعم الأول للقضية الفلسطينية، فمنذ لحظة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وحتى اليوم، لا ترفع القاهرة شعارات رنانة، ولا تزايد على حساب تضحيات غيرها، لكنها تعرف تمامًا متى وأين وكيف تتحرك، بما يحفظ الحقوق ويمنع الانزلاق إلى حسابات قد يدفع ثمنها الأبرياء.وعلى الرغم من تعرض مصر لضغوط عديدة وتحديات داخلية وخارجية، فإنها لم تتوانى أو تتخلى لحظة عن أداء دورها القومي تجاه فلسطين، لا بالشعارات ولا بالمزايدات، بل بالفعل، والعمل، والمواقف التي يعرفها العالم، ومن المفارقة أن من يهاجمها-أحيانا- لا يحمل سوى ظاهرة صوتية بلا سند فعلي على أرض الواقع.البيان الأخير الصادر عن وزارة الخارجية بتاريخ ١١ يونيو 2025 يعيد التأكيد على هذا النهج، حيث أعربت القاهرة عن ترحيبها بالمواقف الدولية والإقليمية، بشكل رسمى وشعبي، وتدعم الحقوق الفلسطينية وترفض الحصار والتجويع وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة.بيان الخارجية لم يكن إلا تجديدًا لموقف مصر الأصيل، الذي يتجاوز رد الفعل اللحظي إلى العمل المنهجي المستمر لإنهاء العدوان، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كارثة إنسانية.الموقف المصري لم يكن يومًا رد فعل وقتي، ولا مجاملة سياسية، بل التزام ثابت، تديره أجهزة دولة كاملة، بدءً من الدبلوماسية المصرية، مرورًا بأجهزتها السيادية القادرة على رصد وتقييم وتحليل المخاطر، إضافة لمواقف قيادتها السياسية التي توازن بين المبادئ ومتطلبات الأمن القومي.بيان الخارجية جزء من سلسلة متواصلة من الجهود السياسية والدبلوماسية التي بذلتها القاهرة منذ الساعات الأولى للحرب على غزة فى 7أكتوبر 2023، فمن جولات المفاوضات غير المباشرة التي استضافتها مصر، إلى المبادرات الإنسانية والضغوط المستمرة من أجل وقف إطلاق النار، مصر لم ترفع يدها عن الملف ولم تتراجع عن خط الدفاع الأول عن الشعب الفلسطيني.مصر لم تغفل زيارة الوفود الأجنبية إلى العريش ومعبر رفح تحت لافتة “التضامن مع غزة”، فكانت لهجة القاهرة واضحة: أهلًا بأي دعم حقيقي للقضية، شريطة ألا يتحول هذا الدعم إلى فوضى أو أداة للاختراق أو الاستغلال.وأكد البيان أن مصر لا تمانع إطلاقًا في زيارة تلك الوفود، بل سبق وأن نظمت زيارات متعددة لكيانات حكومية وغير حكومية، عربية وأجنبية، لكنها في الوقت ذاته شددت على أن ذلك يتم وفق آلية تنظيمية واضحة، تبدأ بطلب رسمي عبر السفارات، وهو ما يعكس مبدأ سيادي بديهي، تحترمه كل الدول، خاصة في ظل حرب مفتوحة.مصر، بحكم موقعها الجغرافي والسياسي، هى الدولة الوحيدة التي تحتك مباشرة بالحدود مع غزة عبر معبر رفح.مصر لم تغلق المعبر في وجه المساعدات، بل نسقت دخولها ونظمتها بطريقة تمنع الفوضى وتحمي المدنيين من الوقوع في كمائن الاحتلال، ولطالما استغلت تل أبيب العشوائية لاختراق الوضع الميداني.من يتحدث عن “عرقلة” أو “تعطيل” لا يدركون أن منطقة الحدود هى منطقة عمليات معقدة، وأن أي تحرك غير منضبط قد يسبب أزمة إنسانية أو أمنية، كما أن القاهرة تتحمل مسؤولية قانونية وسياسية تجاه شعبها وأرضها، ولا يمكن أن تترك الأمور لمبادرات عشوائية – حتى وإن كانت بنيات حسنة – لأن العدو الذي نواجهه لا يفوت فرصة لاختراق أي مساحة.مصر تتحرك في أكثر من مسار، في وقت واحد، فهى على الأرض تسهل دخول المساعدات الإنسانية، وتستقبل الجرحى، وتؤمن معبر رفح، وفي الوقت نفسه، تدير مفاوضات صعبة مع كل الأطراف، لمنع مزيد من التصعيد، والتوصل إلى حلول قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.مصر منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، استقبلت مئات الحالات من المصابين الفلسطينيين، كما جهزت مستشفيات ميدانية في العريش والمناطق القريبة، وسمحت بدخول المئات من الشاحنات التي تحمل مواد غذائية وطبية رغم التهديدات الأمنية والضغوط السياسية.مصر منذ عام 1948، تدفع من دمها واقتصادها واستقرارها ثمنًا لموقفها من القضية الفلسطينية، خاضت الحروب، ووقعت اتفاقيات، واحتضنت حوارات المصالحة، وتحملت أعباء الأشقاء، وضغط عليها الجميع، لكنها لم تغير موقفها الثابت.القاهرة لم تغير سياستها حتى في أكثر اللحظات حرجًا، لا حين ضربت من الداخل بالإرهاب والضغو الاقتصادية، ولا حين واجهت حملات إعلامية ممنهجة لتشويه موقفها، ولا حتى حين انسحب الآخرون من المشهد ورفعوا الرايات البيضاء.ليس كل من يرفع صوته صادقًا، وليس كل من يفتح معبرًا يمتلك قرار الحرب أو السلام، مصر تعرف حجمها، وتعرف حدود مسؤولياتها، وتعرف كذلك أن هناك من لا يريد إلا أن يزايد، أو يورط، أو يضعف الجبهة الداخلية باسم التضامن.مصر لا تغلق الأبواب حين تطلب الالتزام بالضوابط، أو تنظيم التحركات، لكن تحرسها، وعندما تصدر بيانات حازمة، فهي لا تردع التضامن، بل تحميه من الانزلاق إلى طرق لا تخدم أحدًا سوى الاحتلال.لا تزايدوا على مصر، فهي لم تغب عن الميدان، ولم تساوم على الثوابت، ولم تتخل عن فلسطين يومًا، بل تظل- رغم كل شيء- الحائط الأخير في وجه الطامعين.