المتحف المصري الكبير: أسرار تصميم عرض التماثيل

عند دخولك إلى المتحف المصري الكبير، لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتشعر أنك في حضرة التاريخ، كل زاوية وكل تمثال تحيط به هالة من العظمة، كأن الزمان توقف ليمنح الزائرين فرصة التأمل في مجد حضارة لم تندثر. لكن الأمر لا يتعلق فقط بعظمة التماثيل وروعتها الفنية، بل يمتد إلى طريقة عرضها المدروسة التي تخلق تجربة حسية وبصرية فريدة تجعل من كل تمثال محطة سردية قائمة بذاتها.
قرب الافتتاح
واتساقًا مع ذلك، أكد المستشار محمد الحمصاني، المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء، أن الاستعدادات الخاصة بافتتاح المتحف المصري الكبير وصلت إلى مراحلها النهائية، لافتًا إلى أن الدولة تضع حاليًا اللمسات الأخيرة على الترتيبات اللوجستية والفنية المتعلقة بالحفل المرتقب.أوضح الحمصاني أن الاجتماع الذي عقده الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، تناول متابعة كافة التفاصيل المرتبطة بتنظيم حفل الافتتاح، سواء من ناحية الأعمال داخل المتحف، التي انتهت بشكل كامل منذ فترة، أو من حيث تطوير ورفع كفاءة المحاور المرورية المؤدية إلى موقع المتحف.
عرض التماثيل
يعتمد المتحف المصري الكبير أسلوبًا معماريًا استثنائيًا في تقديم تماثيله، يجمع بين الإبهار البصري والدلالات التاريخية، في فضاءات فسيحة تم تصميمها خصيصًا لخدمة سردية متكاملة تبدأ من مدخل المتحف ولا تنتهي إلا بخروج الزائر محمّلًا بدهشة لا تزول. ومن أبرز معالم هذا العرض البهو العظيم، الذي يعد أول ما يراه الزائر عند دخوله، وتستقر فيه تماثيل ضخمة يتصدرها تمثال الملك رمسيس الثاني، إلى جانب عمود النصر للملك مرنبتاح، وتمثالين لملك وملكة من العصر البطلمي، وهذا البهو لا يُستخدم فقط كفراغ استقبال، بل كمقدمة بصرية لملحمة من التماثيل تحكي مراحل مختلفة من التاريخ المصري القديم.أما قلب المتحف الحقيقي، فهو الدرج العظيم، الذي لا يؤدي فقط إلى قاعات العرض بل يتحول هو نفسه إلى معرض دائم، حيث تصطف التماثيل الضخمة والزخارف القديمة على جانبيه، مرتبة بشكل يُبرز التسلسل الزمني والتنوع الفني لعصور ما قبل الأسرات وحتى العصر الروماني.
أنواع التماثيل المعروضة
ومن اللافت أن هذا الدرج لا يعرض التماثيل بوضعها العشوائي، بل بطريقة مدروسة تعكس رمزية وقوة كل تمثال، فهناك تمثيل هرمي متصاعد لتماثيل الملك سنوسرت من الدولة الوسطى، يتناغم مع التصميم الهرمي لواجهة المتحف ويعزز من رمزية السلطة والصعود الروحي في الحضارة المصرية القديمة.ولا يقل جمال قاعات العرض عن عظمة الدرج والبهو؛ إذ تضم 14 قاعة عرض، منها 12 مفتوحة حاليًا، صُمّمت بمساحات رحبة تسمح للزائر بالتنقل بحرية والتأمل في التفاصيل الدقيقة لكل تمثال.تُعرض التماثيل في هذه القاعات بحسب الحقبة الزمنية، ما يمنح الزائر سياقًا تاريخيًا يساعد على فهم تطور الفن والنحت المصري، وتُستكمل هذه التجربة بمنظومة إضاءة ذكية تسلط الضوء على ملامح التماثيل، وتبرز تفاصيلها الدقيقة، من تعبيرات الوجوه إلى ملامح النقوش والزخارف.في إحدى هذه القاعات، وتحديدًا القاعة رقم 11 بالدور الأرضي، يقف تمثال استثنائي نادر للملك أو إيب رع حور، أحد ملوك الأسرة الثالثة عشر، تم اكتشافه داخل ناووس خشبي بجوار هرم الملك أمنمحات الثالث في دهشور، ورغم أن التمثال مصنوع من الخشب، إلا أنه يحظى بحضور طاغٍ، بفضل تفاصيله الدقيقة وعناصره الرمزية. يظهر الملك واقفًا وقد تقدمت قدمه اليسرى، يرتدي شعرًا مستعارًا ثلاثي التقسيم، ولحية مقدسة معقوفة، ومن النظرة الأولى، يبدو عاريًا، لكن بتأملٍ دقيق تظهر بقايا نقبة قصيرة، حزام، وقلادة. أما العينان المطعمتان بالكريستال الصخري والكوارتز فهما أبرز ما يلفت النظر؛ تنظران بثبات نحو الأبدية، في محاكاة مهيبة لنظرة الحياة بعد الموت المعروفة عن القدماء المصريين.
هندسة العرض
ما يميز هذا التمثال ليس فقط ملامحه الفنية، بل أيضًا تكوينه الهيكلي؛ إذ نُحتت الذراعان ونهايتي القدمين والساق اليسرى بشكل منفصل، ثم تم تجميعها ببراعة باستخدام نظام التعشيق، ويعلو رأس الملك شكل الذراعين المفتوحتين، وهو الرمز الهيروغليفي لكلمة “كا” التي تشير إلى الطاقة الحيوية للملك، المستعدة لتلقي القرابين الضرورية لحياته في العالم الآخر. ويُعتقد أن التمثال كان يحمل في الأصل عصا وصولجان، رمزَيْ القوة والسلطة، وقد وُجدت آثار لرقائق ذهبية في أجزاء متعددة منه.يتجاوز المتحف المصري الكبير حدود كونه مجرد صرح لحفظ الآثار؛ فهو يقدم تجربة متكاملة تسعى لربط الزائر ليس فقط بالماضي بل أيضًا بفهم فلسفة القدماء في التعبير عن الذات، والسلطة، والخلود بفضل هندسة العرض الذكية والرمزية.