افتتاح المتحف المصري الكبير: هل يتحدث التاريخ بلغة المال؟

افتتاح المتحف المصري الكبير: هل يتحدث التاريخ بلغة المال؟

في الثالث من يوليو ٢٠٢٥، لا تفتتح مصر متحفًا جديدًا فحسب، بل تُعلن عن تحولٍ استراتيجي في موقعها الحضاري والاقتصادي والدبلوماسي، فالمتحف المصري الكبير، الواقع على أعتاب الأهرامات، لا يمثل نهاية مشروع، بل بداية مرحلة، إنه التجلي الأوضح لقوة مصر الناعمة، ورسالة حضارية صامتة لكنها مدوية، وهو ليس فقط هيكلًا معماريًا ضخمًا، بل مشروع وطني عابر للتخصصات، يربط بين الآثار والهوية، بين الثقافة والاقتصاد، بين التاريخ والمستقبل، وما بين كل قطعة تُعرض فيه والأخرى، هناك فرصة اقتصادية، وإشعاع دبلوماسي، وأثر ثقافي قد يدوم لعقود.
وفي هذا العالم الذي لم تعد موارده تُقاس فقط بما في باطن الأرض، بل بما في عقل الإنسان وذاكرة الشعوب، يظهر مفهوم الاقتصاد الثقافي ليُعيد ترتيب أولويات التنمية، ويضع الثقافة في قلب المعادلة الاقتصادية، وهو ما اعتقد أن مصر بهذا المشروع الثقافي الكبير الذي يُطلق عليه مشروع القرن، تخلق رئة جديدة ليتنفس الاقتصاد القومي الصعداء من خلال الحضارة.
والاقتصاد الثقافي ببساطة، هو تحويل ما تملكه الأمة من تراث وفنون وتاريخ وهوية إلى قوة اقتصادية، وليس المقصود به السياحة فقط، بل منظومة متكاملة تشمل مجالات التعليم، الإعلام، الفنون، الصناعات الإبداعية، البرمجيات، التراث اللامادي، الكتاب، السينما، الحرف التقليدية، المتاحف، والمهرجانات، ومصر صاحبة أعرق الحضارات تأخرت كثيرًا في استثمار هذا الكنز، لكن المتحف المصري الكبير يُمثل نقطة تحول حقيقية، وبوابة لعصر جديد من الاستثمار في الثقافة كرافعة للتنمية.
هذا المشروع هو إطلاق للاقتصاد الثقافي الوطني الذي يصيغ استراتيجية جديدة ومتكاملة للاقتصاد الثقافي والتي تشمل التعليم، وريادة الأعمال، والسياحة، والصناعات الإبداعية، وتحفيز القطاع الخاص للاستثمار في المشروعات المرتبطة بالتراث والفنون والمتاحف، وتبني نموذج الشراكة الدولية في تطوير مواقع أثرية أخرى.
ومن ناحية تطوير البنية التعليمية والسياحية – على سبيل المثال – فسوف يخلق المشروع فرصة لإعداد كوادر متخصصة في إدارة المواقع الأثرية، بالتعاون مع الجامعات العالمية، وإدخال مناهج مبسطة عن التراث والهوية في التعليم الأساسي، كما يوفر الفرصة لإنشاء مدن ذكية حول المتاحف تربط بين الثقافة، والاقتصاد، والتكنولوجيا.
وبنظرة عابرة على التجارب الناجحة، فقد كان من الطبيعي أن تستفيد دول مثل إسبانيا وفرنسا من الاقتصاد الثقافي لتوليد عوائد ضخمة للناتج القومي، فإسبانيا – مثلا – استقبلت 94 مليون سائح دولي في عام 2024، وحققت من ورائهم إيرادات تصل إلى 126 مليار يورو، أي ما يُعادل ما يزيد على 12.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أما فرنسا فقد تصدّرت دول العالم بـ 100 مليون زائر دولي في 2023، وبالرغم من أن مصر تمتلك أكثر من ثلث آثار العالم، فإن تجربتها في استثمار  هذا الكنز وتحويله إلى عائدات ثقافية مستدامة ما زالت في حاجة إلى تطوير  وتخطيط أكثر احترافية، ولذلك يبدو أن مشروع المتحف المصري الكبير  هو نتاج هذا الفكر الجديد القادر على تصحيح المسار.
وعادة ينتج الاقتصاد الثقافي عائده عبر مسارات محكمة، مثل اجتذاب السائحين الثقافيين، وهم الجمهور الباحث عن تجربة استثنائية وثقافية، يقضي من خلالها وقتًا أطول ويُخرج إنفاق أكبر في السياحة في نواح مختلفة مثل الإقامة، والأنشطة، وهو ما ينتج أثرًا اقتصاديًا أعمق من مجرد الزائر العابر.
هناك أيضا السوق المحيط المرتبط بالمتحف، والذي يخلق بيئة أعمال متكاملة، تتمثل في الفنادق الفاخرة والمطاعم ومتاجر الهدايا، بالإضافة إلى الفعاليات الثقافية والمؤتمرات، وكلها سلسلة قيم تُضخ في الاقتصاد بقوة.
لا يخفى أيضا أن مشروع المتحف المصري الكبير يوفر المئات والمئات من فرص العمل الجديدة، والتي ستساهم في الحد من معدلات البطالة في مصر، فالمشروع يتطلب عمالة عالية التخصص مثل محترفو الترميم والمرشدين السياحيين المتمرسين والفنانين في مختلف المجالات، بخلاف الإداريين والفنيين، والوظائف الخدمية الأخرى المتعلقة بالبيئة المحيطة والخادمة للمشروع والمترددين عليه، وكل هؤلاء يصبحون جزءًا من رافعة للنمو.
يوفر أيضا المتحف فرصة لبناء حملة إعلامية مستدامة تخاطب الداخل والخارج، من خلال محتوى كبير من الإنتاج الثقافي الكبير والذي يمكن تحويله إلى أفلام، ومنتجات وثائقية، ونشرات إلكترونية، وحتى المنتجات الرقمية، ومثلا.. فإن مجموعة توت عنخ آمون كاملة، لديها القدرة على جذب انتباه الجماهير والأوساط البحثية العالمية، وكذلك المنصّات الإعلامية، وهذا الزخم الإعلامي سوف يدعمه التواصل مع الجاليات المصرية والعربية والغربية لتسويق المتحف كرمز قومي عالمي.
ولا شك أن نجاح مصر في تنفيذ مشروع المتحف يقدم رسالة دولية قوية إلى المستثمرين الكبار في جميع دول العالم بأن مصر بلد آمن ومستقر وقادر على إدارة مشاريع ثقافية ضخمة، وهو ما يُعد دعوة للاستثمار في مواقع أثرية أخرى من خلال نقل صورة ذهنية إيجابية للعالم عن الأمان والاستقرار والبنية التحتية، بما يُعزز ثقة المستثمرين ويُشجع على ضخ رؤوس الأموال.
وهذا الإنجاز الحضاري الكبير لن يكون مجرد وجهة سياحية فقط، بل مشروع اقتصادي متكامل، من ناحية بنيته التحتية المقامة وفق أحدث المعايير العالمية، ومن خلال تنوع خدماته، في ساحة المتحف المفتوحة، والمطاعم من السلاسل العالمية، وقاعات العروض، ومراكز البحوث، وكلها تمثل بيئة أعمال نشطة تخدم السائح النوعي الذي يبحث عن تجربة حضارية عميقة، حيث سيجد في المتحف ما يدفعه لإطالة الإقامة، وزيادة الإنفاق، والارتباط العاطفي بالمكان.
ولذلك فإن العائد من المتحف لا يجب أن يُقاس بعدد التذاكر فقط، بل بتأثيره على متوسط إقامة السائح، وحجم إنفاقه، وعودته المتكررة، وترشيحه للوجهة لأصدقائه.
أما الأهم، فكان في حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على دعوة كافة ملوك ورؤساء وقادة العالم لحضور حفل افتتاح المتحف المصري الكبير والذي سيستمر لمدة ثلاثة أيام في احتفالية تاريخية، يُعتقد أنها ستكون حدثا غير مسبوق في التاريخ الحديث، فحين يجتمع قادة دول العالم في القاهرة، لا لقمّة سياسية ولا أزمة طارئة، بل لحضور افتتاح متحف، فإن ذلك لا يُقرأ بوصفه حضورًا بروتوكوليًا، بل اعترافًا ناعمًا بمركزية مصر في الوجدان الحضاري والقرار الإقليمي والدولي، فالزعماء لا يذهبون إلى حيث الجمال فقط، بل إلى حيث الرسائل الرمزية، والرسالة واضحة وتعكس أن مصر ليست دولة نامية على هامش الخريطة، بل هي صاحبة تاريخ يفرض احترامه، وموقع يستحيل تجاهله، وقرار يستحق الإصغاء له.
وفي السياسة كما في الاقتصاد، لا توجد إشارات مجانية، وحضور رؤساء العالم لافتتاح المتحف المصري الكبير سوف يمثل تصويت صامت على استقرار مصر، وجدارة مؤسساتها، ونجاحها في استعادة دورها الحضاري والدبلوماسي، كما أنه استثمار سياسي طويل الأمد، فالدول التي تحضر اليوم كضيوف شرف، قد تكون غدًا شركاء في مشروعات اقتصادية، أو داعمين في محافل دولية، أو حلفاء في ملفات إقليمية.
إن الفرصة لا تُعوّض، وأجد أنه من الإنصاف أن أوجه التحية إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي يخطط بإرادته ورؤيته الثاقبة  إلى تحويل هذه اللحظة إلى استراتيجية دائمة، فاللحظات التاريخية لا تصنع نفسها، بل تحتاج من يلتقطها ويحوّلها إلى مسار دائم، وهذا هو ما يفعله الآن رئيس مصر، وما سنراه ونعيشه في الثالث من يوليو القادم، سيكون احتفاء عالمي بمصر عبر افتتاح المتحف المصري الكبير، ولن يكون مجرد لحظة إعلامية عابرة، بل فرصة نادرة لبناء مشروع وطني طويل الأمد، يجعل من الثقافة قوة اقتصادية، ومن الحضارة بوابة للدبلوماسية، ومن السياحة مشروعًا للعدالة الاجتماعية، وليس المطلوب فقط أن يُبهر المتحف العالم، بل أن تقود مصر من خلاله موجة وعي ثقافي إقليمي، تستعيد بها دورها كمركز إشعاع حضاري، ومرجعية فكرية، وصانع التوجهات في المنطقة.
إن مصر التي تقيم أكبر متحف في العالم، وتُدير حدثًا بهذه الدقة والهيبة، تُعلن بغير تصريح أنها عائدة بقوة إلى المشهد العالمي، ليس فقط بسياسة واضحة، بل بثقافة أعمق، وعمق حضاري يليق بها، فالحضارات العظيمة لا تُقاس فقط بما شيّدته في الماضي، بل بما تحسن تقديمه في الحاضر.
والمتحف المصري الكبير ليس مجرّد صرح أثري… بل رسالة مفتوحة للعالم: نحن هنا… وسنبقى.