غزة.. مشاهد المجاعة تطغى على الحرب

يكتسب دخول غزة رسمياً زمن المجاعة، أبعاداً أخرى عن الحرب التي أفرزتها، فمنذ أن تم تسجيل العشرات من حالات الوفاة بالجوع، لم يعد رادار الأخبار الواردة من قطاع غزة يلتقط أكثر من مشاهد النازحين الجوعى، بل ربما سرقت هذه المشاهد الأضواء من الحرب نفسها، وما يرافقها من قتل وتشريد ونزوح.
بسطت المجاعة سلطتها، ودخلت غزة في مدار كارثة إنسانية كبرى، مصدرها منع الاحتلال دخول المساعدات الإغاثية للسكان، في محاولة اجتراح ضغط إضافي على حركة حماس ووضعها في مهب احتجاجات الشارع الغزّي، لكن غزة تلج منازلة أخرى مع الجوع، وباتت على تخوم احتمالات قاتمة، ولا وقت لديها للانتظار، أو حتى المناورة أمام أزمة تراكمية، قوامها القصف والنزوح والجوع، وهي مسارات خضعت لها غزة في خضم الحرب.
تعود عقارب ساعة المجاعة إلى الوراء، مذكّرة بالأشهر الأولى للحرب، وبدأت طوابير المنتظرين تتوارى شيئاً فشيئاً، فلا تكايا طعام ولا مخابز ولا مراكز لتوزيع المساعدات، وحتى الأسواق بدت خاوية على عروشها، وما زال النازحون يعيشون تحت وقع حرب لا تبقي ولا تذر، وتهديدات إسرائيلية متصاعدة بتوسيع رقعتها.
كان رغيف الخبز مغمس بالدم في قطاع غزة، لكن في زمن المجاعة، الخبز أصبح «من الماضي» بعد أن أصبح الدقيق عملة نادرة، واستنفدت التكايا مخزونها، وحيث لا وقود ولا حتى حطب، تنعكس هذه الصعوبات على واقع الحياة اليومية.
«المجاعة المستشرية دخلت فصولاً كارثية، وآثارها بدأت تتعمق مع نفاد السلع الغذائية من الأسواق بشكل شبه كامل، ونفاد المخزون الغذائي للتكايا ومراكز توزيع المساعدات، ونشعر بالضيق لعدم قدرتنا على تلبية احتياجات السكان الجوعى» والحديث للمواطن أحمد الحاج أحد العاملين في تكية لتوزيع الطعام في مخيم النصيرات أحد المخيمات الكبرى بقطاع غزة.
يشرح الحاج لـ»الشرق»: «في الأيام الأخيرة قدمنا القليل من الشوربة فقط، ولم يعد بوسعنا إعداد أي نوع من الطعام، وكم كانت المشاهد مرعبة وصادمة للجوعى الذين لم يسعفهم الحظ في الحصول على الطعام.. طفل يلتقط ما تبقى في الأواني بعد نقعها بالماء لتنظيفها، وامرأة تحاول استصلاح بقايا الأرز المتساقط على الأرض، الكل هنا يبحث عن أي شيء يمكن أن يؤكل».ومع دخول الشهر الثالث للحصار الإسرائيلي المشدد على قطاع غزة، بعد استئناف الحرب، بدت آثار المجاعة جلية على الغزيين، فغدت الوجوه شاحبة، والأعين غائرة، والأجسام هزيلة، وقفز عداد الوفيات بالجوع عن الـ70 حالة، بينها 55 من الأطفال، وسط تحذيرات من توالي وفيات جماعية.
وتروي النازحة أماني الخال أن أطفالها ينامون على جوعهم، لعدم توافر أي نوع من الطعام في خيمتها، فضلاً عن كونها لا تملك المال للشراء من الأسواق إن توافر بها شيء، مبينة أن آخر وجبة قدمتها لأولادها كانت عبارة عن علبة صغيرة من حب الحمص المسلوق، قبل يومين.
وشأنها شأن غالبية المواطنين في قطاع غزة، تنتاب الخال خيبة أمل كبيرة، بعد أن جالت على التكايا كلها، دون أن تنال نصيب أطفالها، مبينة: «عندما أسمع صرخات أطفالي وهم يطلبون الطعام، أفقد صوابي، وأخرج للبحث عما يسد رمقهم، رغم معرفتي المسبقة بالنتيجة، وليس سوى جواب واحد يتردد أمامنا.. لا يوجد طعام».
ومنذ استئناف الحرب في 18 مارس الماضي، شدد كيان الاحتلال من حصاره المفروض أصلاً على قطاع غزة، فقطع امدادات الطعام والماء والوقود، ما تسبب بكارثة إنسانية، عنوانها العريض صعوبة الحصول على أبسط مقومات الحياة.