نبيل نعوم يدوّن: ياسمين الصحراء

فى ثمانينيات القرن الماضى قمنا ستة من الأصدقاء برحلة إلى الواحات بداية بواحة الداخلة، وكان من بيننا الصديقان العزيزان المعمارى نبيل غالى والرحالة والمصور الفوتوغرافى مروان الدوى. كانت رحلة أقل ما يقال عنها إنها كانت رحلة مثيرة ومدهشة.
رحلنا فى سيارتين من ذوات الدفع الرباعى مختلفتين فى الهوية والقدرات، إحداهما أمريكية فاخرة ماركة شيفروليه، والأخرى روسية الصنع ماركة لادا، أكثر ملاءمة للبلاد الباردة الثلجية ومحدودة الإمكانات بالبلاد الحارة الصحراوية.
بدأنا بواحة الداخلة عبر طريق أسفلتى ممهد، واستمتعنا بجمال هذه الواحة وزرنا بقايا مدن تعود إلى القرون الوسطى والعصور الفرعونية، ثم أكملنا الرحلة بطريق أسفلتى حتى وصلنا إلى واحة الفرافرة. لم تكن واحة سيوة على خريطتنا ربما بسبب احتياجنا فى تلك الفترة على تصاريح من مرسى مطروح.
وكى نصل إلى واحة الخارجة، بدأت الصعاب وخاصة لم يكن هناك طريق أسفلتى ولذا قضينا الكثير من الوقت فى محاولة دفع السيارات وخاصة اللادا بعد غرسها فى الرمال.
أخيرا وصلنا إلى الخارجة ومررنا بترحيب وشك من السلطات، ولكننا اجتزنا بنجاح الرد على التساؤلات المرتبطة بالدافع لتلك الرحلة والهدف من الزيارة وبالطبع التعرف والتأكد من شخصياتنا.
وعلى ما أذكر كيف بلطف أوصى أحد المسئولين عن الأمن بأن يصاحبنا أحد المرشدين المحليين العارفين بخريطة الواحات، ليرافقنا حتى بداية الطريق الواصل بين الهضبة الشرقية والصعيد.
وهنا كدنا نفقد ما تسمى بالعلاقة بالحياة لوعورة ذلك الدرب أو السكة التى لم تكن وقتها معدة للسيارات، ولكن ربما للجمال.
كانت الرحلة خلال الهضبة الشرقية ممتعة وخطيرة فى الوقت نفسه، حيث فقدنا الطريق عدة مرات وكذلك واجهنا مشاكل السيارات، ولكننا وصلنا فى النهاية إلى وادى النيل الرائع على مشارف مدينة فرشوط.
ياسمين الصحراء. الواحات بأسرارها وطبقات الحضارات المختلفة على أرضها؛ حيث ينحت الصمت البيوت، وتقبل السماء الأرض عند غروب الشمس.
جنات تزهر من حول العيون، كى تملأ الشابات جرارهن بالماء، وقلوبهن بالشوق.
على البعد ستبدو دائمًا كسرابٍ وسط الرمال الممتدة بلا نهاية. من بين التلال، سيتفجر ثدى الصحراء السخى بالماء. الحلم الذى يداعب خيال من كاد يقتله العطش، ليرتوى مع حيوانه ولتشبع الحقول.
سيرتاح عابر السبيل. وإن طالت المسافة قبل الوصول، ولو تباطأ الزمن حتى حُسبت اللحظات قرونا، فليس بعد الشوق من جزاء سوى اللقاء، وليس بعد الوصل سوى البقاء.
لن يجف الماء أبدا، ولن يرحل المكدود التعب بعد الآن.
هنا ياسمينة الصحراء، حيث لا بعد ولا قرب ولا مسافة ولا زمن.
سيمر الجميع هنا، وستتراكم الذكريات على الجدران والأبواب والأزقة، كما على جسد أشجار التين والزيتون.
أو سيحملها نسيم الربيع لتوقظ الأعين السوداء المكحلة على عبير يُشرب من لمسة الماء للشفاه العطشى لقبلات المساء.
كما تقبل الريح زعف النخيل، سينسجه الشباب فى أجنحة يحلقون بها احتفالا بمقدم الربيع.
وحين تملأ الفتيات جرارهن بالماء، سيخفق قلبٌ لقلبٍ، ليتدفقُ الحنين إلى الأحشاء وترجع الرغبة إلى مصدرها.
الماء فى الصحراء معجزة طبيعةٍ تخلب الذهن إن تَفَكَّرَ، وتُنعم عليه بالغبطة إن أصبح.
هذه الكينونة المعصومة من التوق لغير المتاح، هى تنزه حبات الرمل عن شرب كل قطرات السيل، وعفة الماء عن أن يتصور قدرته على إغراق الصحراء.
بين أرض تفتح مسامها لكل قطرة لقاء، وبين سماء مثقلة بنجوم تكسح بنورها ظلمات محيطات الجفاف، ستحوط الواحة نفسها بستار من أسرار وحكايات، يتلوها الشيوخ، ويفسرها الشباب فى لغة النضج وجنى الثمار.
فى البعد كما فى القرب ستفتح الأرض نفسها للقاء المعشوق، الماء والسماء.
فى الشوارع الضيقة ستسيل حوائط البيوت المبنية بالطوب النىء، يخبزه الصانع البارع بخلط الطين مع بعض التبن وبول الحمير. يعجن التربة ويقيم بها خباء الاحتواء، الدار.
ستعلو منارة الجامع الصغير ليؤذن من فوقها الشيخ معلم الصغار خمس مرات فى اليوم.
ستأخذ الطوبة مكانها فى جدار منزل، تزينه الرسوم؛ جمل أو طائرة أو سفينة تصحب الحجاج فى رحلة حج مباركة.
ستتربع الطوبة فى فتحة باب، تطل منه امرأة تحمل طفلها لتعرضه للشمس.
وأيضا ستقيم الطوبة زاوية حائط، بين ملتقى سبل، حيث يجلس الشيوخ مقرفصين فى انتظار حدث قد يحدث أو لا يحدث.
يشغلون الوقت بغزل الصوف فى خيوط قادرة على تحويط الواحة. كرات من شرانق تحمل بداخلها فراشات العثة التى هى أيضا جزء من دورة الحياة.
البُسط البارعة النسج على أصابع النسوة اللاتى لا يغادرن منازلهن، سوف تلتهمها حشرات ستطير حرة، لتضع فيما بعد بويضاتها فى أحراش شعيرات الصوف.
عندئذ ستتجسد متعة التحول بين الدودة والفراشة. يا لروعة الغطاء الذى يلتفح به الخروف!
أسفل الحوائط سيجلس الشيوخ يدخنون سجائرهم الملفوفة بعناية. سيتذكرون أجمل نساء الواحة. المرأة التى صارت أسطورة.
هى، يقولون، والشفاه التى حرقتها الصحراء وبللتها قطرات عين المياه، تقول إنها كانت الجميلة أجمل الجميلات. من لم يكن لها مثيل.
لم يروها هم أنفسهم، ولكنهم سمعوا عنها، كما حكوا من قبل للرحالة العالم أحمد فخرى:
«كانت أكبر حجما من جمل، وأسمن لحما من بقرة. إن جلست صعب عليها القيام إلا لو شدت حبلاً، تدلى خصيصا من سقف دارها.
كانت إن همت، وحان لها أن تتحرك، استندت إليه واستعانت به. وبمعوانه حبيباتها اللاتى كانوا يقدسنها، كان بإمكانها النهوض.
وقال الشيوخ بالواحة إن بعدها لم يكن جمال. إن الواحة لم تأتِ بامرأة سخية عفية معطاءة مجزية مثلها».
سيتحسر عليها الشيوخ. يأخذون أماكنهم أسفل حوائط تشرب شمس النهار، وتبخ الظل فى المساء.
سيتحسرون على الزمن الذهبى الذى كان وزن المحبوبة فيه سبع مرات وزن العاشق. فهو يحرق نفسه أما هى فدلالها لا يعطله التوق.
العاشق، جزاء عشقه الوجد والحسرة، أما المعشوق فمعصوم من التفكر والتعكر.
أيضا سيكرر الشيوخ فيما بينهم أن أيام العمر لا يمكن استرجاعها.
سيشكون من الغلاء، ويتمنون القيام بالحج.
سيضحكون على آلامهم من تحجر المفاصل.
وكما كل نهار ومساء، سيتناوبون إعادة قص مغامراتهم ورحلاتهم بين الواحات الحقيقية والسرابية.
ومع غروب الشمس، حين يسقط القرص الملتهب فى صرة البئر، ليسطع القمر، سيتواعدون على اللقاء فى الغد فى نفس المكان.
فليس بعد الوصل سوى البقاء. لن يجف الماء أبدا، ولن يرحل المتعب بعد الآن.
هنا ياسمينة الصحراء، حيث لا بعد ولا قرب، بل فقط هنا والآن.
والآن وبالنسبة للواحات عموما ومدى أهميتها أذكر هذا المثل عن الواحات الذى يقول: «اللى ما يعرف الصقر يشويه».